بسم الله الرحمن الرحيم
اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَيَّدْتَ دِينَكَ فِي كُلِّ أَوَانٍ بِإِمَامٍ أَقَمْتَهُ عَلَماً لِعِبَادِكَ، وَمَنَاراً فِي بِلَادِكَ.. افْتَرَضْتَ طَاعَتَهُ، وَحَذَّرْتَ مَعْصِيَتَهُ(1).
هذه كلمةٌ للإمام السجاد عليه السلام، فرع الشجرة النبويَّة، والدَّوحة الهاشمية، نجم من نجوم الإمامة، وَصَلَ الله حبله بحبله، وجعله ذريعةً إلى رضوانه، وصَيَّرَه عصمة اللائذين، وكهف المؤمنين، وبهاء العالمين.
وقد امتحنَ الله عبادَه بين دعوته التي تنتهي إلى الجنة، ودعوة الشيطان التي تنتهي إلى النار، حيث جعله عدوَّاً لهم، وأجراه مجرى دمائهم، وأسكنه في صدورهم، فصار يكيدهم ويختدعهم عن دين الله ومعرفته وطاعته، ويُصَوِّرُ لهم الباطل في مثال الحق ليضلَّهم عن طريق ربهم!
ولمَّا كان الإمام هو: الْأَنِيسُ الرَّفِيقُ، وَالْوَالِدُ الشَّفِيقُ، وَالْأَخُ الشَّقِيقُ، وَالْأُمُّ الْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَمَفْزَعُ الْعِبَادِ فِي الدَّاهِيَةِ النَّآد(2).. فإنَّه المُعينُ للمؤمنين في بلائهم، والداعي لهم في شدَّتهم، والمُبَيِّنُ لهم معالم دينهم، والمرشد لهم إلى واضح السبيل.
لقد كان الإمام السجَّاد عليه السلام يهتمُّ بقضاء حوائج المؤمنين في الدُّنيا، ويبكي بكاءً شديداً إن لم يقدر على رفع فاقتهم، وسَدِّ حاجتهم! ويعدُّها مصيبةً ومحنةً كبرى!
لكنَّ الأعظم من ذلك هو حاجتهم في أمور دينهم، فكان الإمام يجهد في سعيه لحفظهم من الحيرة والضلالة، وكان يدعو الله تعالى كي يعين أهل الربوبية ويُعرِّفهم ويبصِّرهم، ويقوِّيهم على شياطينهم، في معرفة العلوم الربانية.
وصار دُعاؤه عليه السلام باباً من أبواب معرفة الله، وإدراك عظمته، وَبَثَّ عليه السلام في صحيفته الغرَّاء المباركة، إلى جانب الدَّمعة والحزن والأسى، أصولاً تبني العقيدة الحقَّة وتهدم ما يأفك الضَّالون، فظهر في كلماته من المعارف الحقَّة ما تتعجَّبُ منه العقول!
إنَّ دعاءه عليه السلام يأسر الألباب، ويكشف بكلماتٍ موجَزَةٍ بليغةٍ عقيدة التوحيد الحقَّة، وينزِّه الله عن كلِّ مشابهةٍ لخلقه، ويُبَيِّن امتناع وصف كنهه عزَّ وجلّ، وعظيم علمه وقدرته وسلطانه وملكه المتأبد بالخلود.
وهكذا ترى في درر كلماته حقيقة العدل الإلهي، الذي ينفي الجَورَ والجَبر، فالله تعالى يعطي ويمنع بلا تَعَدٍّ، ويقضي ويُقَدِّرُ بلا قَهرٍ وجَبر.
ويتراءى في كلماته عظيم منزلة النبوَّة والإمامة، وعجائب الموت والمعاد.. في منظومة عَقَديَّة لا نظير لها ضمن قالب الدُّعاء والرَّجاء! تنير درب المؤمن، فيهتدي بها في الظُّلمات، ويستضيء بها من الشكّ والشبهات.
وهنا فصولٌ أربعةٌ تعرض لأصول الدِّين من الصحيفة المباركة:
الفصل الأول: توحيد الله وتنزيهه
ليست المعارف والعلوم متساويةً عند ذوي الحِجى في لزومها، وقَدرِها وجلالها، فمنها العظيم الخطير الشأن، الذي لا محيص عن العلم به، ولا يُعذَرُ تاركه، ومنها ما يكون كمالاً غير لازم، أو فضلاً غير واجب، أو تَرَفاً غير مُجدٍ، أو فُضُولاً مُتلِفاً للوقت والعمر.
وهكذا تتفاوت علوم الأديان رغم شرافتها، فتتفاضل في مكانتها رغم خُلُوِّها من التَّرَف والفضول، فيتقدَّم عليها الأصل الأول، وهو توحيد الله وتنزيهه ووصفه بما يليق بشأنه وجلاله وعظمته.
وللإمام السجاد عليه السلام في قالب الدُّعاء كلماتٌ بليغةٌ، تكشفُ على إيجازها جُلَّ ما يحتاجه المؤمن في معرفته لربه.
وأوّل هذه الكلمات ما يشير إلى أهميَّة توحيد الله تعالى، ففي دعائه عليه السلام يوم عرفة: وَلَا تَرُدَّنِي صِفْراً مِمَّا يَنْقَلِبُ بِهِ المُتَعَبِّدُونَ لَكَ مِنْ عِبَادِكَ، وَإِنِّي وَإِنْ لَمْ أُقَدِّمْ مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ فَقَدْ قَدَّمْتُ تَوْحِيدَكَ وَنَفْيَ الأَضْدَادِ وَالأَنْدَادِ وَالأَشْبَاهِ عَنْكَ، وَأَتَيْتُكَ مِنَ الأَبْوَابِ الَّتِي أَمَرْتَ أَنْ تُؤْتَى مِنْهَا، وَتَقَرَّبْتُ إِلَيْكَ بِمَا لَا يَقْرُبُ أَحَدٌ مِنْكَ إِلَّا بالتَّقَرُّبِ بِهِ(3).
تكشف هذه العبارة من الدُّعاء أنَّ أعظم ما يتقرَّب به العبادُ إلى ربِّهم تعالى أمران:
الأمر الأول: معرفة الله تعالى والإيمان به، بما تتضمَّن من توحيده وتنزيهه وتعظيمه تعالى.
الأمر الثاني: إتيانه من أبوابه التي أراد، وهم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام.
ومن أهمِّ جهات المعرفة والإيمان في باب التوحيد أمورٌ:
الأمر الأول: توحيد الله
لقد أثبت أميرُ المؤمنين عليه السلام معنيين لتوحيد الله تعالى ونفى آخَرَين، وكان المثبَتُ منهما في كلمات السجَّاد عليه السلام جَليّاً بَيِّناً، والمنفيُّ مُحتاجاً إلى إيضاح.
فالتوحيد تارةً يكون بمعنى نفي الشبيه كما قال عليه السلام: فَقَوْلُ القَائِلِ: هُوَ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ فِي الأَشْيَاء شِبْهٌ، كَذَلِكَ رَبُّنَا.
وتارةً بمعنى عدم الانقسام والتركيب كما قال عليه السلام: وَقَوْلُ القَائِلِ: إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدِيُّ المَعْنَى، يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ فِي وُجُودٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا وَهْمٍ، كَذَلِكَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ(4).
وقد جمعهما الإمامُ السجَّاد عليه السلام في كلمته المتقدِّمة، وقَرَنَ بينهما بقوله: فَقَدْ قَدَّمْتُ تَوْحِيدَكَ وَنَفْيَ الأَضْدَادِ وَالأَنْدَادِ وَالأَشْبَاهِ عَنْكَ(5).
فصارَ من معاني الوحدانية نفي الشبيه، لذا كلُّ ما كان من صفاتٍ في الخالق استحالَ وجودها في المخلوق، وكل ما كان من صفاتٍ في المخلوق استحال وجودها في الخالق، ولزم نفي المشابهة والمسانخة والمشاكلة بين الخالق والمخلوق، لأنَّ المشابهة لو تمت لقامت آية المخلوق في الخالق، ولاستحال مخلوقاً بعد أن كان خالقاً.
بهذا صار التوحيد والتنزيه مقترنان أبداً، لا يتمُّ الأوَّلُ منهما دون الثاني، وليس إلهاً من قيل بوحدانيته دون تنزيهه عن المشابهة لخلقه، فضلاً عن أن يكون له ضدٌّ أو نِدٌّ أو شريك: أَنْتَ الَّذِي لَا ضِدَّ مَعَكَ فَيُعَانِدَكَ، وَلَا عِدْلَ لَكَ فَيُكَاثِرَكَ، وَلَا نِدَّ لَكَ فَيُعَارِضَكَ(6).. تَعَالَيْتَ عَنِ الأَشْبَاهِ وَالأَضْدَادِ، وَتَكَبَّرْتَ عَنِ الأَمْثَالِ وَالأَنْدَادِ(7).
لذا ورد في الدُّعاء المتقدِّم للسجاد عليه السلام يوم عرفة: أَنْتَ الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الأَحَدُ المُتَوَحِّدُ الفَرْدُ المُتَفَرِّدُ.
هذا في المعنَيَين المثبَتين، فالله تعالى واحدٌ لا شبيه له ولا تركيب فيه ولا تعدُّد في ذاته.
أما المعنيان المنفيَّان عن الله تعالى في باب التوحيد فهما وحدانية العدد، ووحدانية النوع من الجنس، كما في كلام أمير المؤمنين عليه السلام:
فَأَمَّا اللَّذَانِ لَا يَجُوزَانِ عَلَيْهِ:
- فَقَوْلُ القَائِلِ: وَاحِدٌ، يَقْصِدُ بِهِ بَابَ الأَعْدَادِ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا لَا ثَانِيَ لَهُ لَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الأَعْدَادِ، أَ مَا تَرَى أَنَّهُ كَفَرَ مَنْ قَالَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ.
- وَقَوْلُ القَائِلِ: هُوَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ، يُرِيدُ بِهِ النَّوْعَ مِنَ الجِنْسِ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ، وَجَلَّ رَبُّنَا عَنْ ذَلِكَ وَتَعَالَى(8).
لكنَّ هذه العقيدة في صحيفة السجّاد عليه السلام تواجه معضلةً، حيث تتضمَّن ما يشعِرُ بوحدانية العدد، حين يوصف الله تعالى بالأول والآخر، كما في قوله عليه السلام: وَأَنْتَ الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ، وَالآخِرُ بَعْدَ كُلِّ عَدَدٍ(9).
وكما في قوله عليه السلام: الحَمْدُ لله الأَوَّلِ بِلَا أَوَّلٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَالآخِرِ بِلَا آخِرٍ يَكُونُ بَعْدَهُ(10).
لأنَّ (الأول) يُشعرُ بجواز وجود (ثانٍ) كوحدانية النصارى، وهو ممنوع.
ثمَّ يزداد الأمر إشكالاً عندما يُصَرِّحُ الإمام عليه السلام بإثبات وحدانية العدد في محلٍّ آخر فيقول: لَكَ - يَا إِلَهِي- وَحْدَانِيَّةُ العَدَدِ، وَمَلَكَةُ القُدْرَةِ الصَّمَدِ، وَفَضِيلَةُ الحَوْلِ وَالقُوَّةِ، وَدَرَجَةُ العُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ(11).
وظاهره ينافي ما تقدَّم من أنَّ (مَا لَا ثَانِيَ لَهُ لَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الأَعْدَادِ)، وإثبات وحدانية العدد ممنوعٌ مشابهٌ لعقيدة النصارى.
والجواب عليه:
أنَّ الأوَّلية (الأول) لا يراد منها سوى الأزليَّة، أي أنَّه تعالى لم يكن مسبوقاً بالعدم، ولم يكن لغيره وجودٌ قبل أن يخلق الخلق.
ولا يُراد من كونه تعالى (الآخر) أنه قد طرأ عليه التَغَيُّر والتبدُّل، كما يشير إليه قوله عليه السلام بعد تنزيه الله تعالى: كَذَلِكَ أَنْتَ الله الأَوَّلُ فِي أَوَّلِيَّتِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ أَنْتَ دَائِمٌ لَا تَزُول(12).
فالله تعالى لا يزال كما كان، لا يُغَيِّرُه شيء، لم يتغيَّر بخلقه الخلق، ولا يتغير بإعدامهم.
أما إثبات وحدانيَّة العدد، ففي معناها احتمالاتٌ كثيرة، أرجحُها اثنان:
الاحتمال الأول: أنَّ يكون المراد من نفي وحدانية العدد عنه تعالى هو نفي عددٍ أوّلٍ يصحُّ أن يكون له ثانٍ، كما هو حال الأعداد غالباً، لأنَّ مآله إلى نفي الوحدانية حقيقة، وإثبات التعدُّد والكثرة كما هو حال النصارى، والشاهد عليه نفس قوله عليه السلام: (لِأَنَّ مَا لَا ثَانِيَ لَهُ لَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الأَعْدَادِ).
أمَّا المثبَت فهو وحدانيَّة العدد بمعنى أنَّ الله تعالى واحدٌ، والواحد وإن كان عدداً، إلا أنَّه عند إثباته لله تعالى لا يكون كأيِّ عددٍ، بل هو واحدٌ لا ثاني له، لأنه لا شبيه ولا نظير ولا عِدلَ له، فيصحُّ إثبات وحدانية العدد بهذا المعنى، بل يكون معناها هو نفس المعنى الأول الذي أثبته أمير المؤمنين عليه السلام: هُوَ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ فِي الأَشْيَاء شِبْهٌ.
الاحتمال الثاني: أن يكون المراد من إثبات وحدانية العدد كونها واحدةً في الذات لا في مقابلها، أي أنَّ ذاته تعالى واحدةٌ لا تَكَثُّر فيها ولا تركُّب ولا تعدُّد في أيِّ جهةٍ من الجهات، ويكون مآلها إلى إثبات المعنى الثاني الذي أثبته أمير المؤمنين عليه السلام: أَحَدِيُّ المَعْنَى، يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ فِي وُجُودٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا وَهْمٍ.
وهذان المعنيان المحتملان في حقيقتهما يُثبِتَان عين التوحيد وحقيقته، فالله تعالى لا شبه لا، ولا تعدُّد في ذاته.
لذا اعتقد الشيعة تبعاً لأئمتهم عليهم السلامأنَّ صفات الله عين ذاته، بمعنى أنه لا تكثُّر في ذاته تعالى، وأنَّ الذات الإلهية المقدَّسة متَّصفةٌ بكلِّ كمالٍ دون تعدُّدٍ أو تركُّب، فكلُّ واحدةٍ من الصفات هي عينُ ذاته من غير تكثُّر، وهذا التغايُرُ في المفاهيم لا يلزم منه التغاير في الوجود، بخلاف كل الموجودات الأخرى التي يلزم من تعدُّد الصفات فيها التركيب والتعدُّد، والله تعالى قد ثبتت له وحدانية العدد بهذين المعنيين، ولا غبار عليهما، بل هما حقيقة التوحيد، وهذا المعنى يوافق ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه تعالى: الْوَاحِدُ بِلَا تَأْوِيلِ عَدَد (13).
الأمر الثاني: تنزيه الله تعالى
إنَّ تنزيه الله تعالى عن الشَّبَه والانقسام حتى في الوهم، يتفرَّع عنه معانٍ وجِهاتٍ عدَّة، منها ما عن الإمام السجاد عليه السلام: سُبْحَانَكَ! لَا تُحَسُّ وَلَا تُجَسُّ وَلَا تُمَسُّ وَلَا تُكَادُ وَلَا تُمَاطُ(14) وَلَا تُنَازَعُ وَلَا تُجَارَى وَلَا تُمَارَى وَلَا تُخَادَعُ وَلَا تُمَاكَرُ!(15).
وانطلاقاً من هذا التنزيه، فإنَّ جميع صفات الأجسام منفيَّةٌ عنه تعالى، وكلُّ ما تدركه الحواس منزَّه عنه عزَّ وجل، سواء كانت الحواس جَليَّة أو خفية، ظاهرة أو باطنة، ولا لَمس ولا مَسَّ ولا جَسَّ.. لأنَّ كلُّ أنواع الاتصال المادية أو الجسمانية التي تقع بين المخلوقات منفيَّة عنه تعالى.
ولا مكان يحيط به.. فلو قرأنا دعاءً للسجاد عليه السلام وتوهَّمنا منه خلاف ذلك، كقوله عليه السلام: سُبْحَانَكَ! مَا أَجَلَّ شَأْنَكَ، وَأَسْنَى فِي الأَمَاكِنِ مَكَانَكَ(16).. حيث قد يقال بدلالته على وجوده تعالى في المكان، قرأنا إلى جانبه قوله عليه السلام: أَنْتَ الَّذِي لَا يَحْوِيكَ مَكَانٌ.. ففهمنا أنَّ الله تعالى لا يحلُّ في المكان ولا يحويه مكان، بل إنَّ وجوده في المكان هو بمعنى إحاطته بالمكان وهيمنته وتسلُّطه عليه وخلقه له وعلمه به وبما فيه.
على أنَّ من أعظم وجوه التنزيه هي تنزيه الله تعالى عن أن يُحاط به علماً، وههنا جهتان مهمَّتان:
الجهة الأولى: أنَّ الله تعالى هو الذي عَرَّفَنَا من نفسه ما نعرف، وفتح لنا باب الهداية بمَنِّه وكرمه، ولولاه لم نعرفه، كما أشار له الإمام السجاد عليه السلام: وَعُرِفَتِ الهِدَايَةُ مِنْ عِنْدِكَ.
وكما في قوله عليه السلام: وَلَوْ دَلَّ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقاً مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مِثْلِ الَّذِي دَلَلْتَ عَلَيْهِ عِبَادَكَ مِنْكَ كَانَ مَوْصُوفاً بِالإِحْسَانِ، وَمَنْعُوتاً بِالامْتِنَانِ، وَمَحْمُوداً بِكُلِّ لِسَانٍ، فَلَكَ الحَمْدُ مَا وُجِدَ فِي حَمْدِكَ مَذْهَبٌ، وَمَا بَقِيَ لِلْحَمْدِ لَفْظٌ تُحْمَدُ بِهِ، وَمَعْنًى يَنْصَرِفُ إِلَيْه(17).
فإنَّه يشير إلى أنَّ الذي دلَّ العباد على معرفته تعالى هو الله نفسه، وهو إحسانٌ عظيمٌ منه تعالى يستحقُّ الحمد عليه.
وأوضح منه ما في أول أدعية الصحيفة: وَالحَمْدُ لله الَّذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبَادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ عَلَى مَا أَبْلَاهُمْ مِنْ مِنَنِهِ المُتَتَابِعَةِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ المُتَظَاهِرَةِ، لَتَصَرَّفُوا فِي مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ، وَتَوَسَّعُوا فِي رِزْقِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ. وَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَخَرَجُوا مِنْ حُدُودِ الإِنْسَانِيَّةِ إِلَى حَدِّ البَهِيمِيَّةِ.. وَالحَمْدُ لله عَلَى مَا عَرَّفَنَا مِنْ نَفْسِهِ، وَالهَمَنَا مِنْ شُكْرِهِ، وَفَتَحَ لَنَا مِنْ أَبْوَابِ العِلْمِ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَدَلَّنَا عَلَيْهِ مِنَ الإِخْلَاصِ لَهُ فِي تَوْحِيدِهِ، وَجَنَّبَنَا مِنَ الالحَادِ وَالشَّكِّ فِي أَمْرِهِ(18).
الجهة الثانية: أنَّ هذه المعرفة ليست معرفة إحاطة بالذات الإلهية، ولا بصفاته تعالى، فصفاته عين ذاته.
بل هي معرفةٌ بعظمته وتنزيهه عن مشابهة مخلوقاته وعن المسانخة بينه وبينها، وإقرارٌ بالعجز عن المعرفة والقصور فيها، كما قال السجاد عليه السلام: أَنْتَ الَّذِي قَصُرَتِ الأَوْهَامُ عَنْ ذَاتِيَّتِكَ، وَعَجَزَتِ الأَفْهَامُ عَنْ كَيْفِيَّتِكَ، وَلَمْ تُدْرِكِ الأَبْصَارُ مَوْضِعَ أَيْنِيَّتِكَ. أَنْتَ الَّذِي لَا تُحَدُّ فَتَكُونَ مَحْدُوداً، وَلَمْ تُمَثَّلْ فَتَكُونَ مَوْجُوداً، وَلَمْ تَلِدْ فَتَكُونَ مَوْلُوداً(19).
وفي هذا الدعاء من المعاني العظيمة الشيء الكثير، فالأوهام هي أوسع أبواب الإدراك لدى الإنسان، إذ أنَّها تدركُ حتى ما لا وجود له في الواقع، وتقدر على تَخَيُّل صورٍ لا تكاد تكون محصورة.
ورغم سعة إدراك الوهم وتخيّله، فإنّه يعجز عن إدراك ذات الله تعالى، كما تعجز الأفهام والعقول عن إدراك كيفيته، أي كيف هو، لأنه تعالى هو المكيِّفُ للأشياء، فلا كيف له، وهو المؤين للأماكن، فقبل خلقه لها لم يكن مكانٌ، فلا تقدرُ الحواسُ أن تحدِّدَ له مكاناً لأنَّه لا يحلُّ في مكان، ولا يخضع للأبصار التي خلقها وأوجدها.
وقد تكرَّرت هذه المعاني في أدعية الإمام عليه السلام، فمنها قوله: يَا مَنْ تَنْقَطِعُ دُونَ رُؤْيَتِهِ الأَبْصَارُ(20)..
ومنها قوله عليه السلام: الَّذِي قَصُرَتْ عَنْ رُؤْيَتِهِ أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ، وَعَجَزَتْ عَنْ نَعْتِهِ أَوْهَامُ الوَاصِفِينَ(21).
ومنها قوله عليه السلام: ضَلَّتْ فِيكَ الصِّفَاتُ، وَتَفَسَّخَتْ دُونَكَ النُّعُوتُ، وَحَارَتْ فِي كِبْرِيَائِكَ لَطَائِفُ الأَوْهَامِ(22).
والجامع بين كلِّ ذلك قوله المتقدم: أَنْتَ الَّذِي لَا تُحَدُّ فَتَكُونَ مَحْدُوداً.
فإنَّ الله تعالى هو خالق الخلق وموجد الحدود بينها، لكنَّه ليس من سنخها ولا على شاكلتها، وليس لوجوده حدٌّ محدود، ولو كان له حدٌّ لكان له ابتداءٌ وانتهاءٌ، ولكان موجوداً في مكانٍ قد صنعه، ولكان له كيفٌ وهو المكيِّفُ للكيف.. وهكذا.
ولمّا كان تعالى لا حدَّ له، وكانت أدوات الإدراك في الإنسان بأسرِها مخلوقةً محدودةً كالعقل والقلب والوهم، فإنَّها مهما أدركت وفهمت وعلمت وتوهَّمت كان لذلك حدٌّ تنتهي إليه ولا تُجاوِزُه، فلو أحاطت بالله علماً لكان الله محدوداً، ولو كان محدوداً لكان مخلوقاً مصنوعاً، تعالى الله عن ذلك.
لذا لا يُصغى لما يدَّعيه أئمة التصوُّف والعِرفان من إحاطة العقول أو القلوب أو الأوهام بالله تعالى، بتقريباتٍ فاسدةٍ كاسدة، كتسويغ ذلك بعنوان الفناء في الله والاندكاك وما شاكل، فإنَّها أباطيل وزخارف لا توافق تنزيه الله تعالى(23).
الأمر الثالث: تعظيم الله تعالى
إنَّ مَن لم يكن له حدٌّ محدود، لم يكن لعظمته أو لقدرته حدود أو قيود.
أمَّا عظمته تعالى، فتظهر في عظيم إبداعه.
قال الإمام السجاد عليه السلام: سُبْحَانَكَ! بَاهِرَ الآيَاتِ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ، بَارِئَ النَّسَمَاتِ!(24).
وأنت كلَّما نظرت إلى آيةٍ من آيات الله البديعة أرشَدَتكَ إلى عظمة خالقها، وكلَّما نَظَرتَ إلى شيء في السماء والأرض، أو خلقٍ من خلق الله، سَبَّحتَه وعظَّمته لما ترى من عظيم شأن خالق هذه المخلوقات البديعة، التي تعجز إلى يومك مع كلِّ العجائب التي أودعها الله فيها أن تخلق خليَّة واحدة من مثلها!
إنَّ عظمة المَلِك تظهر بعظمة مُلكِه، ومُلكُ الله تعالى لا نظير له، وعِزُّه لا حَدَّ له.
ومن كلمات الإمام عليه السلام في هذا المعنى: اللهمَّ يَا ذَا المُلْكِ المُتَأَبِّدِ بِالخُلُودِ، وَالسُّلْطَانِ المُمْتَنِعِ بِغَيْرِ جُنُودٍ وَلَا أَعْوَانٍ، وَالعِزِّ البَاقِي عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ وَخَوَالِي الأَعْوَامِ وَمَوَاضِي الأَزمَانِ وَالأَيَّامِ، عَزَّ سُلْطَانُكَ عِزّاً لَا حَدَّ لَهُ بِأَوَّلِيَّةٍ، وَلَا مُنْتَهَى لَهُ بِآخِرِيَّةٍ، وَاسْتَعْلَى مُلْكُكَ عَلُوّاً سَقَطَتِ الأَشْيَاءُ دُونَ بُلُوغِ أَمَدِهِ، وَلَا يَبْلُغُ أَدْنَى مَا اسْتَأْثَرْتَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ أَقْصَى نَعْتِ النَّاعِتِينَ(25).
إنَّ عقول الخلق تقصر عن وصف مُلك الله تعالى وسلطانه بعد أن عجزت عن وصف ذاته! (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه)(26).
فوصفُنا لبعض ما نرى من مخلوقات الله لا يعني إحاطتنا بحقائقها، وما نعجز عن وصفه من عجائب الخلقة أعظم مما نصف، فيكون أقصى نعتنا لها غير مؤدٍ أدنى حقَّها!
وكما كانت ذاته تعالى لا تشبه شيئاً من مخلوقاته، كذلك لا يشبه شيءٌ من أفعاله أفعال البشر، وكلُّ الموجودات من صنعه تعالى، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: لَا يُشْبِهُ فِعْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَيْئاً مِنْ أَفْعَالِ البَشَرِ، وَلَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِهِ كَلَامَ البِشْرِ(27).
على أنَّ القدرة من أبرز مظاهر العظمة.. قال عليه السلام: سُبْحَانَكَ! لَا يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ أَشْرَكَ بِكَ، وَكَذَّبَ رُسُلَكَ، وَلَيْسَ يَسْتَطِيعُ مَنْ كَرِهَ قَضَاءَكَ أَنْ يَرُدَّ أَمْرَكَ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْكَ مَنْ كَذَّبَ بِقُدْرَتِكَ، وَلَا يَفُوتُكَ مَنْ عَبَدَ غَيْرَكَ، وَلَا يُعَمَّرُ فِي الدُّنْيَا مَنْ كَرِهَ لِقَاءَكَ. سُبْحَانَكَ! مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ، وَأَقْهَرَ سُلْطَانَكَ، وَأَشَدَّ قُوَّتَكَ، وَأَنْفَذَ أَمْرَكَ!(28).
فقدرة الله تعالى لا حدَّ لها.. لا ينافيها كفر الكافرين وتكذيب المكذِّبين، فما قدروا على ذلك إلا بإقدار الله لهم وإمهاله إياهم، وليس لهم من الأمر إلا ما أعطاهم، ولا من القدرة إلا ما أقدرهم، ولو شاء لقهرهم أو أهلكهم، فقدرته لا تعجز عن شيء وإن عظم، كما قال السجاد عليه السلام: وَالحَمْدُ لله الَّذِي مَنَّ عَليْنَا بِمُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وآله وسلم دُونَ الأُمَمِ المَاضِيَةِ وَالقُرُونِ السَّالِفَةِ، بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لَا تَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ وَإِنْ عَظُمَ، وَلَا يَفُوتُهَا شَيْءٌ وَإِنْ لَطُفَ(29).
فما استعظمناه منها إنَّما استعظمناه لضعفنا، وقلة ذات يدنا، وكثير عجزنا: اللهمَّ وَإِنَّكَ مِنَ الضُّعْفِ خَلَقْتَنَا، وَعَلَى الوَهْنِ بَنَيْتَنَا، وَمِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ابْتَدَأْتَنَا، فَلَا حَوْلَ لَنَا إِلَّا بِقُوَّتِكَ، وَلَا قُوَّةَ لَنَا إِلَّا بِعَوْنِك(30).
فصارت معرفة هذه العظمة والقدرة ملازمة لكمال الخضوع والخشوع والتسليم لله عزَّ وجل، كما هو حال الأولياء الكُمَّل.
الأمر الرابع: علم الله تعالى
في مبحث العلم الإلهي جهاتٌ كثيرةٌ، نكتفي بالوقوف عند واحدة منها، وهي شمولُ هذا العلم لكلِّ معلوم، بما في ذلك ما لم يكن، فالله تعالى عالمٌ بما كان قبل أن يكون، وعالمٌ بما لم يكن لو كان كيف يكون.
ومن كلمات السجاد عليه السلام الجميلة في ذلك قوله: وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ شَيْءٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبٌ(31).
وقوله عليه السلام: يَا الله الَّذِي لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْكَ - يَا إِلَهِي- مَا أَنْتَ خَلَقْتَهُ، وَكَيْفَ لَا تُحْصِي مَا أَنْتَ صَنَعْتَهُ، أَوْ كَيْفَ يَغِيبُ عَنْكَ مَا أَنْتَ تُدَبِّرُهُ، أَوْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْكَ مَنْ لَا حَيَاةَ لَهُ إِلَّا بِرِزْقِكَ، أَوْ كَيْفَ يَنْجُو مِنْكَ مَنْ لَا مَذْهَبَ لَهُ فِي غيْرِ مُلْكِكَ(32).
وهذه الكلمات صريحةٌ في شمول علمه تعالى لـ(كلِّ شيء)، وكلُّ من أقوى أدوات العموم، و(الشيء) هو أعمُّ المفاهيم، والله تعالى محيطٌ بكلِّ شيء، ولا يخفى عليه شيءٌ، بما في ذلك ما كان وما يكون وما لا يكون، وما سيفعل العباد وما سيكون إليه مآل أمرهم وحالهم.
وفي الدعاء الثاني إشاراتٌ جميلةٌ إلى ضرورة هذا العلم، فالخالق لا يمكن أن يغيب عنه علمُ ما خلق، والمدبِّرُ لا يمكن أن يجهل ما يُدبِّر، والرازق لا يمكن أن لا يعلم حال المرزوق، والمالك لكلِّ الوجود لا يمكن أن يخفى عليه شيءٌ من هذا الوجود.
لذا لا يُصغى إلى ما ذهب إليه بعضهم من امتناع معرفة الله تعالى بأفعال العباد قبل وقوعها، لأنَّ هذا الوهم ناشئٌ من شبهةٍ مفادُها أنَّ علمَ الله عزَّ وجلَّ بهذه الأفعال قبل إقدامهم عليها يلزم منه جبرهم وقهرهم عليها، حيث لا يتخلف المعلوم عن العلم.
ومثل ذلك نفي علم الله بالشرور، لأنَّ علمه تعالى بها يعني تقديره لها، والله لا يقدِّر الشرور، فلا بدَّ أنّه لا يعرفها!
ودفع هاتين الشبهتين واضحٌ جليٌّ لمن تدبَّر، رغم انطلائهما على جملة من الباحثين في أمور الدين والعقيدة!
فإنَّ علمَ الله بأنَّ فلاناً سيطيع وفلاناً سيعصي لا يعني أنَّه يقهرهم على الطاعة والمعصية، ولو كان علمه لا يطرأ عليه التبدُّل والتغيُّر، فإنَّ العلم إنما يتعلَّق بفعلهم الاختياري، أي أنَّ الله تعالى يعلم أنَّه عندما سيُخيِّرُهم سيختار أحدهما الطاعة والآخر المعصية، فإثبات التخيير هنا لا يجتمع مع القهر والجبر، وعلمُ الله تعالى متعلقٌ بما سيختارونه بأنفسهم.
فإن قيل: لو علم الله تعالى أن فلاناً سيطيعه، فهل يمكن له أن يعصي مع ذلك؟
قلنا: نعم هو قادرٌ على المعصية كما هو قادرٌ على الطاعة، لكنَّه لن يُقدِمَ على ذلك اختياراً، والله عالمٌ بذلك من قبل أن يخلقه.
وهذا ليس تَرَفاً عَقَدياً أو فكرياً، بل هو من صميم العقيدة الحقَّة، بل لُبُّ التوحيد قائمٌ على إثبات الكمال لله تعالى، وقولهم هذا منافٍ له، لذا قال السجاد عليه السلام: مَنْ قَالَ بِأَنَّ الله تَعَالَى لَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ إِلَّا بَعْدَ كَوْنِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَخَرَجَ عَنِ التَّوْحِيدِ(33).
وقد سئل الصادق عليه السلام: هَلْ يَكُونُ الْيَوْمَ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ الله بِالْأَمْسِ؟
قَالَ: لَا، مَنْ قَالَ هَذَا فَأَخْزَاهُ الله(34).
وقد أشار الإمام الهادي عليه السلام إلى أن اختبار الله تعالى للناس لم يكن عن جهلٍ بما سيختارون ويفعلون، فقال عليه السلام: بَلَى قَدْ عَلِمَ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ قَبْلَ كَوْنِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ)، وَإِنَّمَا اخْتَبَرَهُمْ لِيُعَلِّمَهُمْ عَدْلَهُ، وَلَا يُعَذِّبَهُمْ إِلَّا بِحُجَّةٍ بَعْدَ الْفِعْلِ(35).
وهكذا فإنَّ نفي علم الله تعالى بأفعال العباد قبل وقوعها خروجاً يُعدُّ خروجاً عن توحيد الله تعالى.
ومثله نفي علم الله بالجزئيات، الذي قال به بعض الفلاسفة، فهو من قبيح القول والمعتقد.
الأمر الخامس: الخلق ونفي السنخية
إذا كان علمُ الغيب مختصَّاً بالله تعالى فلا يعلم الغيب إلا الله، رغم ذلك يُطلِعُ الله على غيبه من يشاء من رُسُلِه، فهل خَلق الخَلق كذلك؟!
أي أنَّ الخلق وإن كان من مختصات الله تعالى كعلم الغيب، إلا أنَّه هل يمكن أن يُقدِرَ الله تعالى بعض خلقه على أن يخلقوا؟!
تشير أدعية الإمام السجاد عليه السلام أولاً إلى أنَّ الله تعالى هو خالقُ كلِّ مخلوق، فلا خالق غيره: اللهمَّ لَكَ الحَمْدُ بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، رَبَّ الأَرْبَابِ، وَإِلَهَ كُلِّ مَأْلُوهٍ، وَخَالِقَ كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَوَارِثَ كُلِّ شَيْءٍ.
فالله هو (خالقُ كلّ مخلوق)، ولا خالق سواه: أَنْتَ الَّذِي ابْتَدَأَ، وَاخْتَرَعَ، وَاسْتَحْدَثَ، وَابْتَدَعَ، وَأَحْسَنَ صُنْعَ مَا صَنَعَ(36).
ثمَّ يشير دعاءٌ آخر للإمام عليه السلام إلى أنَّ الخلق بذاته يكشف عن قدرة الخالق، فكلُّ فعلٍ يدلُّ على قدرة فاعله، ومن ذلك الخلق، ولو كان لغير الخالق أن يخلق مثله لما كان في الخلق دلالةٌ على اختصاص القدرة بالله تعالى.
قال الإمام عليه السلام: أَسْتَوْهِبُكَ - يَا إِلَهِي- نَفْسِيَ الَّتِي لَمْ تَخْلُقْهَا لِتَمْتَنِعَ بِهَا مِنْ سُوءٍ، أَوْ لِتَطَرَّقَ بِهَا إِلَى نَفْعٍ، وَلَكِنْ أَنْشَأْتَهَا إِثْبَاتاً لِقُدْرَتِكَ عَلَى مِثْلِهَا، وَاحْتِجَاجاً بِهَا عَلَى شَكْلِهَا(37).
وفي قوله عليه السلام: (وَلَكِنْ أَنْشَأْتَهَا إِثْبَاتاً لِقُدْرَتِكَ عَلَى مِثْلِهَا) إشارةٌ إلى أنَّ هناك تلازماً بين الإنشاء والقدرة، وبين الإنشاء وصحة الاحتجاج لإثبات ألوهية الخالق.
وإن لم يكن المعنى الأخير جليَّاً تماماً في هذا الدُّعاء، فإنه في بعض الأدعية الأخرى أكثر وضوحاً، كما في دعاء ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان المبارك: وَخَالِقُ الْأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا بِحِكْمَتِهِ، دَالَّةً عَلَى أَزَلِيَّتِهِ وَقِدَمِهِ(38).
وهو واضحٌ في إثبات الملازمة بين الخلق وبين الأزليَّة، فالخالق لا يكون إلا أزلياً غنياً قادراً، ولو كان لغير الله تعالى أن يخلق مثله للزم أن يكون شريكاً له في الألوهية.
وقد أشارت عدّة نصوص إلى الملازمة بين الخلق والأزلية والغِنى، كما في قول أمير المؤمنين عليه السلام: مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ، وَبِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ العَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَبِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ.. كَفَى بِإِتْقَانِ الصُّنْعِ لَهُ آيَةً، وَبِتَرْكِيبِ الطَّبْعِ عَلَيْهِ دَلَالَةً، وَبِحُدُوثِ الفِطَرِ عَلَيْهِ قِدْمَةً، وَبِإِحْكَامِ الصَّنْعَةِ عَلَيْهِ عِبْرَةً(39).
ومثله قوله عليه السلام: بِإِنْشَائِهِ الْبَرَايَا عُلِمَ أَنْ لَا مُنْشِئَ لَهُ(40).
لذا يختصُّ الخلق بالله تعالى، لئلا يكون له شركاء في أزليَّته، ولكي لا يثبت تعدُّد القديم، فلو نَسَبتَ الخلق إلى غيره من أوليائه لأثبتَّ لهم الأزلية والقِدَم، وثبت أنهم غير مخلوقين، وهو ملازمٌ للشرك بالله تعالى.
نعم قد ثبت الخلق لبعض المخلوقين بمعنىً آخر غير الإيجاد والإحداث والاختراع والابتداع، وهو خلق التقدير، كما في عيسى عليه السلام حيث قدَّر من الطين على هيئة الطير فصارت طيراً بإذن الله، أو كالملائكة الخلاقين الذين يرسلهم الله تعالى إلى الجنين في بطن أمه فيصورونه على ما أمرهم الله من مثالٍ، وهذا كله خلق تقدير لا ينافي ما تقدَّم.
على أنَّ في دعاء الإمام السجاد عليه السلام عبارةٌ يؤكد فيها عليه السلام أنَّ الخلق كان من غير سِنخٍ، فيقول عليه السلام: وَأَنْتَ الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الَّذِي أَنْشَأْتَ الأَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ سِنْخٍ، وَصَوَّرْتَ مَا صَوَّرْتَ مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ، وَابْتَدَعْتَ المُبْتَدَعَاتِ بِلَا احْتِذَاءٍ(41).
والظاهر أنَّ قوله عليه السلام (أَنْشَأْتَ الأَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ سِنْخٍ) يقصد به من غير أصلٍ، فيكون أجنبياً عن قاعدة (السنخيَّة) التي يقول بها جملةٌ من أهل المعقول، ففي كتاب العين: سنخ: السِّنْخُ: أصل كل شيء(42)، ويوافقه ما في المحيط للصاحب بن عباد والصحاح للجوهري والمعجم لابن فارس، ولا تكاد تجد معنىً آخر في كتب اللغة لهذا اللفظ.
فيكون المراد من الدُّعاء أنَّ الله تعالى خلق الأشياء من غير أصل، وابتدأها من غير شيءٍ سابق، إذ كان الله ولم يكن معه شيء، ثم خلق الأشياء (لا من شيء).
أمَّا قاعدة (السنخيَّة) بين الخالق والمخلوق، أي لزوم (السنخية) بينهما، فهي قاعدة فلسفيَّة، يُدَّعى أنَّها ترجع لدليلٍ عقليٍّ، وأنَّه لا بدَّ منها لإثبات التوحيد، وهي ترتبط بقاعدة أخرى عندهم (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)، يعدُّها بعضهم من أصول التوحيد التي لا يتمُّ إلا بها! (43).
وقد فسَّر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء السنخية بقوله: إنَّ بين كلَّ علة ومعلولٍ لا بد أن تكون سنخيةٌ ومناسبة، بمعنى أن تكون بينهما جهةٌ وحيثيةٌ، وبتلك الجهة والحيثية يصدر هذا المعلول من تلك العلة، فإن لم يكن بينهما السنخية والاقتضاء الخاص يلزم أن يؤثر كل شيء في كل شيء، ومعروف أنه لو لا السنخية بين العلة والمعلول لزم تأثير كل شيء في كل شيء(44).
ثمَّ جعل هذه القاعدة مع قاعدة عدم التركُّب في الخالق دليلاً على قاعدة (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد) حيث قال: إن صدر من واحد غير الواحد يلزم إما التركيب في ذات الواجب فيكون ممكناً، وإما عدم السنخية بين العلة والمعلول، وكلاهما باطلان بضرورة العقل، فصح أنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد(45).
وهذه النظرية ترى أنَّ عدم السنخية بين العلة والمعلول ينتهي إلى بطلان التوحيد من أصله وأساسه!
والسرُّ في قولهم هو أنَّ السنخيَّة هنا دالَّةً على (التناسب) بين العلة والمعلول، من باب قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)(46)، بتقريب أنَّ الفاعل الكريم لا يمكن أن يكون فعله غير متناسبٍ مع ذاته، فالرحيم يرحم العباد، وقاسي القلب يقهرهم ويظلمهم، وهكذا.
ثمَّ صارت هذه القاعدة عندهم شاملةً للخالق والمخلوق، بناءً على كون الخلق من باب العلة والمعلول، فقالوا أنَّه لا بدَّ من مناسبةٍ أو جهةٍ أو حيثيةٍ مشتركةٍ أو مشابَهَةٍ بينهما.
وقد يستدلُّ له بما ورد في الحديث: لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِلَّةُ كُلِّ شَيْءٍ، ولَيْسَ شَيْءٌ بِعِلَّةٍ لَهُ(47).
وفي الدعاء: اللَّهُمَّ يَا سَبَبَ مَنْ لَا سَبَبَ لَهُ، يَا سَبَبَ كُلِّ ذِي سَبَبٍ، يَا مُسَبِّبَ الْأَسْبَابِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ(48).
قال صاحب تفسير الميزان: ومن الواجب أن تكون بين المعلول وعلّته سنخيّةٌ ذاتيّةٌ هي المخصِّصة لصدوره عنها، وإلاّ كان كلُّ شيء علّةً لكلُّ شيء، وكلُ شيء معلولا لكلِّ شيء.
فلو صدر عن العلّة الواحدة التي ليس لها في ذاتها إلاّ جهةٌ واحدةٌ معاليلُ كثيرةٌ بما هي كثيرةٌ متباينةٌ لا ترجع إلى جهة واحدة، تقرّرت في ذات العلّة جهاتٌ كثيرةٌ متباينةٌ متدافعةٌ، وقد فرضت بسيطة ذات جهة واحدة، وهذا خلف. فالواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد!(49).
وعَدَّ الميرداماد هذه القاعدة من فطريات العقل! فقال: انّ الواحد بما هو واحدٌ لا يصدر عنه من تلك الحيثيّة الواحدة الّا واحد، إذ ليس في طباع الكثرة بما هي كثرةٌ أن تصدر عن علّةٍ واحدة من حيثيّة واحدة. فلعلّ هذا الأصل، بما تلوناه عليك في الضابط، من فِطريّات العقل الصريح(50).
وقد وقعت هاتان القاعدتان موقع النَّقد الشديد من قبل جملةٍ من العلماء:
أمَّا القاعدة الأولى، أي قاعدة السنخيَّة:
1. فلأنَّ السنخيَّة إن أريد بها (المشابهة) بين الخالق والمخلوق، فهي باطلةٌ جزماً، لأنَّ أصل التوحيد قائمٌ على نفي التشبيه بينه تعالى وبين خلقه: أَمَّا التَّوْحِيدُ فَأَنْ لَا تُجَوِّزَ عَلَى رَبِّكَ مَا جَازَ عَلَيْك(51).
وهذا المعنى من مسلَّمات العقيدة الحقَّة كما دلَّ على ذلك العقل لامتناع قيام آية المخلوق في الخالق، والكتاب العزيز كما في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)(52)، والحديث الشريف المتكثِّر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ شَبَّهَ الله بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَر(53)، وعن أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: وَحَجَبَ الْعُقُولَ عَنْ أَنْ تَتَخَيَّلَ ذَاتَهُ فِي امْتِنَاعِهَا مِنَ الشَّبَهِ وَالشَّكْل(54)، مروراً بسائر الأئمة إلى الإمام العسكري عليه السلام: جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شِبْهٌ، هُوَ لَا غَيْرُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ(55).
2. وإن أريد بالسنخيَّة (المناسبة والاقتضاء)، كالمناسبة بين النار والحرارة، والثلج والبرودة، فإنَّها قياسٌ وتشبيهٌ فاسدٌ بين الخالق والمخلوق، كما تكشفُ عن خلطٍ بين الفاعل المختار وبين الموجَب غير المختار.
قال تعالى: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون)(56)، وإرادته تعالى هي إحداثه كما عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: الْإِرَادَةُ مِنَ الخَلْقِ الضَّمِيرُ وَمَا يَبْدُو لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا مِنَ الله تَعَالَى فَإِرَادَتُهُ إِحْدَاثُهُ لَا غَيْرُ ذَلِكَ(57).
فهذه القاعدة إن صحَّت في التكوينيات، لا تصحُّ في الفاعل المختار بحالٍ، فضلاً عن أن يثبت منها التناسبُ بين الله تعالى ومخلوقاته المتكثِّرة.
وقد أوضح السيد الخوئي هذا المعنى جلياً بقوله: انَّ المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلَّة وينبثق من صميم كيانها ووجودها. ومن هنا قلنا ان تأثير العلة في المعلول يقوم على ضوء قانون التناسب.
واما المعلول في الفواعل الإرادية فلا يرتبط بذات الفاعل والعلَّة ولا ينبثق من صميم وجودها. ومن هنا لا يقوم تأثيره فيه على أساس مسألة التناسب.
نعم يرتبط المعلول فيها بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته ارتباطاً ذاتياً يعنى يستحيل انفكاكه عنها حدوثاً وبقاء، ومتى تحققت المشيئة تحقق الفعل، ومتى انعدمت انعدم. وعلى ذلك فمردُّ ارتباط الأشياء الكونية بالمبدأ الأزلي وتعلقها به ذاتاً إلى ارتباط تلك الأشياء بمشيئته وإعمال قدرته، وأنها خاضعة لها خضوعاً ذاتياً وتتعلق بها حدوثاً وبقاء، فمتى تحققت المشيئة الإلهية بإيجاد شيء وجد، ومتى انعدمت انعدم، فلا يعقل بقاؤه مع انعدمها، ولا تتعلق بالذات الأزلية، ولا تنبثق من صميم كيانها ووجودها، كما عليه الفلاسفة(58).
على أنَّ لازم قول هؤلاء الفلاسفة هو نفي القدرة عن الله تعالى، إذ يصيرُ تأثيره في الموجودات قهرياً كضرورة تولُّد الحرارة من النار، قال رحمه الله: وعلى هذا الضوء فمعنى علية ذاته تعالى للأشياء ضرورة تولدها منها وتعاصرها معها.. فإذا كانت الأشياء متولدةً من وجوده تعالى بنحو الحتم والوجوب.. بحيث يمتنع انفكاكها عنه، فاذن ما هو معنى قدرته تعالى وسلطنته التامة. على أنّ لازم هذا القول انتفاء وجوده تعالى بانتفاء شيء من هذه الأشياء في سلسلته الطولية، لاستحالة انتفاء المعلول بدون انتفاء علته(59).
وبهذا يتَّضح حال القاعدة الثانية (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)، فهي قاعدةٌ غير تامَّة، ولو تمَّت في الفاعل غير المختار، لا يمكن تسريتها إلى الله تعالى، حيث يلزم منها تحديدُ قدرته بحيثُ لا يمكن أن يخلق الله إلا مخلوقاً واحداً! وبعد خلقه يصيرُ قادراً على أن يخلق مخلوقاً آخر! وهكذا..
من ثَمَّ أقرَّ بعضهم بنظرياتٍ فلسفية لا دليل عليها (كالعقول العشرة)، وصارت قدرة الله تعالى على الخلق محدودةً عندهم بطريقٍ توهموه بعقولهم القاصرة!
لذا ما ارتضى أكثرُ العلماء هذا القول، فقال العلامة الحلي: المؤثر إن كان مختاراً جاز أن يتكثر أثره مع وحدته(60).
وشدَّد بعض العلماء النكير على هذا القول، بل عدَّه بعضهم على حدّ عدم الإيمان بالله، قال الشيخ المجلسي: ولعمري من قال: بأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.. وأمثال ذلك، كيف يؤمن بما أتت به الشرائع ونطقت به الآيات وتواترت به الروايات من اختيار الواجب وأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد(61).
وقال الشيخ التبريزي: هذه القاعدة أسسها أهل المعقول لإثبات وحدة الصادر الأول، وهي غير تامّة عندنا، وعلى تقدير تماميتها لا تجري في خلق الله (سبحانه وتعالى) فالله (سبحانه وتعالى) فاعل بالاختيار، وتلك القاعدة موردها الفاعل بالجبر(62).
وكلامه هذا هو الحقُّ الذي لا ريب فيه.
الفصل الثاني: العدل الإلهي
إنَّ العدل الإلهي قد يُنظَرُ إليه بمعنيين، يصيرُ بأوَّلهما أصلاً من أصول الدين، وبثانيهما أصلاً من أصول المذهب:
1. فالعدل الذي يقابِلُ الجَور والظُّلم هو أصلٌ من أصول الدين، ومن نسب لله تعالى الظُّلم خرج عن دينه.
2. والعدلُ الذي يقابلُ الجَبر هو أصلٌ من أصول المذهب، فهو يعني العقيدة الحقَّة المأثورة عن الأطهار في حقيقة أفعال العباد، وأنَّها أمرٌ بين أمرين.. فلا جبر ولا تفويض، ومن اعتقد أن الله تعالى يجبر العباد على أفعالهم فقد خالف أصول المذهب.
ويظهر هذان المعنيان بشكلٍ جليٍّ واضحٍ في صحيفة السجاد عليه السلام:
أولاً: العدل في مقابل الجور
قال تعالى: (إِنَّ الله لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(63)، وقد نفت هذه الآية عن الله تعالى الظُّلم، وهي كسائر الآيات المُحكَمة، تؤكد أن الله لا يظلم أحداً.
ومثلها آيات أخرى: (وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبيدِ)(64)، (وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبيدِ)(65)، (إِنَّ الله لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّة)(66).
لكنّ المتأمِّلَ في هذه الدُّنيا يرى أموراً لا يكاد يفقه وجه الحكمةِ فيها، بل قد يراها ضعيفُ الإيمان مخالِفَةً للعدل الإلهي!
بل قد يعجز المؤمن عن بيان وجه الحكمة لغير المؤمن حين يقول: كيف يكون إلهكم عادلاً مع كل البلاءات والأمراض التي ينزلها بعباده؟ ومع الاختلاف الكبير بينهم في الصور والهيئات والقُدُرَات والمقدَّرَات؟! وسائر العطاءات؟
إنَّ الجور يُتصوَّر على أنحاءٍ عدَّة منها:
1. المرض والبلاء
قد يُتصوَّر أن إنزال الأمراض والأوبئة، وكثرة الشدائد والبلاءات، يخالف العدل الإلهي، أو أن إنزالها على قومٍ دون غيرهم كذلك.
لكنَّ السجَّاد عليه السلام يدعو الله بدعاءٍ عجيبٍ، يُبيِّنُ فيه أنَّ الشدائد والمحن والبلاءات هي أيضاً تفضُّلٌ من الله تعالى! كما الصحة والعافية والراحة!
يقول عليه السلام: اللهمَّ لَكَ الحَمْدُ عَلَى مَا لَمْ أَزَلْ أَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنْ سَلَامَةِ بَدَنِي، وَلَكَ الحَمْدُ عَلَى مَا أَحْدَثْتَ بِي مِنْ عِلَّةٍ فِي جَسَدِي، فَمَا أَدْرِي، يَا إِلَهِي، أَيُّ الحَالَيْنِ أَحَقُّ بِالشُّكْرِ لَكَ، وَأَيُّ الوَقْتَيْنِ أَوْلَى بِالحَمْدِ لَكَ!(67).
وهذا المعنى مما لا يكاد يتنبَّه له العباد لولا بيان المعصوم عليه السلام، فليس من الناس من يحمد الله تعالى ويشكره على البلاء والمرض كما يشكره على العافية! بل ليس منهم من يدرك أن المرض تفضُّلٌ يحتاجُ شكراً إلا مَن اهتدى بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام.
ولئن كان سبب الشكر في الصحة هو ما قاله الإمام عليه السلام: أَ وَقْتُ الصِّحَّةِ الَّتِي هَنَّأْتَنِي فِيهَا طَيِّبَاتِ رِزْقِكَ، وَنَشَّطْتَنِي بِهَا لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِكَ وَفَضْلِكَ، وَقَوَّيْتَنِي مَعَهَا عَلَى مَا وَفَّقْتَنِي لَهُ مِنْ طَاعَتِكَ.
فإن سبب الشكر على البلاء هو أنَّ خلف البلاء حكمةً وصلاحاً للعبد، يقول عليه السلام: أَمْ وَقْتُ العِلَّةِ الَّتِي مَحَّصْتَنِي بِهَا، وَالنِّعَمِ الَّتِي أَتْحَفْتَنِي بِهَا، تَخْفِيفاً لِمَا ثَقُلَ بِهِ عَلَيَّ ظَهْرِي مِنَ الخَطِيئَاتِ، وَتَطْهِيراً لِمَا انْغَمَسْتُ فِيهِ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَتَنْبِيهاً لِتَنَاوُلِ التَّوْبَةِ، وَتَذْكِيراً لِمَحْوِ الحَوْبَةِ بِقَدِيمِ النِّعْمَةِ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ مَا كَتَبَ لِيَ الكَاتِبَانِ مِنْ زَكِيِّ الأَعْمَالِ، مَا لَا قَلْبٌ فَكَّرَ فِيهِ، وَلَا لِسَانٌ نَطَقَ بِهِ، وَلَا جَارِحَةٌ تَكَلَّفَتْهُ، بَلْ إِفْضَالًا مِنْكَ عَلَيَّ، وَإِحْسَاناً مِنْ صَنِيعِكَ إِلَيَّ!(68).
لقد صار البلاء تمحيصاً وتخفيفاً عن المؤمن، ورَفعاً لآثار الخطيئات، ورِفعةً في الدَّرجات، وتطهيراً من القاذورات.
فإنَّ العبد إذا ما انغمس في المعاصي وما قوبل بالشدة والبلاء كان ذلك استدراجاً له، وإملاءً من الله تعالى حتى لا يرجع إلى خيرٍ أبداً.
ولأن الله تعالى يحبُّ عبده المؤمن فإنه يبتليه بأنواع البلاءات كي ينقذه ويخلصه من آثار الذنوب والمعاصي، بما يقدر على تحمله، لئلا يعاقب عليها يوم القيامة بما لا قبل له به.
2. منع العطاء أو اختلافه
إنَّ أوسع أبواب الشكِّ في عدل الله تعالى إنما تأتي من اختلاف عطاء الله لعباده، في طول أعمارهم، وذرياتهم، وأموالهم، وعافيتهم، وغير ذلك من النِّعم.
فالله تعالى يعطي بعض العباد ويحرم بعضهم، ولا يكون عطاؤه على وزانٍ واحد لمن أعطى، فيظنُّ الجاهلُ أنَّ الله تعالى ما كان عادلاً بين عباده، بل يظنُّ بعضهم أن الله تعالى ظَلَمَهُ حين حرمه!
ههنا يكشفُ السجَّادُ عليه السلام أيضاً معنىً في غاية الرَّوعة.. فالله تعالى عادلٌ في قِسمة معايش العباد مع اختلافها! ومتفضِّلٌ عليهم في المنع كما هو متفضِّلٌ في العطاء!
كيف ذلك؟
يقول عليه السلام: شَهِدْتُ أَنَّ الله قَسَمَ مَعَايِشَ عِبَادِهِ بِالعَدْلِ، وَأَخَذَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ بِالفَضْلِ.. اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَطَيِّبْ بِقَضَائِكَ نَفْسِي، وَوَسِّعْ بِمَوَاقِعِ حُكْمِكَ صَدْرِي، وَهَبْ لِيَ الثِّقَةَ لِأُقِرَّ مَعَهَا بِأَنَّ قَضَاءَكَ لَمْ يَجْرِ إِلَّا بِالخِيَرَةِ، وَاجْعَلْ شُكْرِي لَكَ عَلَى مَا زَوَيْتَ عَنِّي أَوْفَرَ مِنْ شُكْرِي إِيَّاكَ عَلَى مَا خَوَّلْتَنِي(69).
إنَّ الله تعالى عادلٌ في عطائه ومنعه، لأنَّ العطاء لم يكن عن استحقاق بل عن تفضُّل، والتفضُّل على بعض العباد دون بعضهم لا ينافي العدل، فمن كان محروماً لم يكن في حرمانه تَعَدٍّ على حقٍّ له لأنَّه لا يستحقُّ شيئاً.
يقول عليه السلام: اللهمَّ.. مِنَّتُكَ ابْتِدَاءٌ.. إِنْ أَعْطَيْتَ لَمْ تَشُبْ عَطَاءَكَ بِمَنٍّ، وَإِنْ مَنَعْتَ لَمْ يَكُنْ مَنْعُكَ تَعَدِّياً!(70).
وهنا بيت القَصيد، فإذا حَرَمَ الله تعالى أحداً من العمر المديد، أو المال الوفير، أو الذريَّة التي تقرُّ بها عينه، فإنَّه لم يحرمه شيئاً يستحقُّه، لأنَّ عطاءه تفضُّلٌ وابتداءٌ بالمَنّ.
وقد سئل الإمام الباقر عليه السلام عن هذا المعنى: فعَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الجُعْفِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ البَاقِرِ عليه السلام: يَا ابْنَ رَسُولِ الله، إِنَّا نَرَى مِنَ الأَطْفَالِ:
1. مَنْ يُولَدُ مَيِّتاً
2. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْقُطُ غَيْرَ تَامٍّ
3. وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ أَعْمَى أَوْ أَخْرَسَ أَوْ أَصَمَّ
4. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ مِنْ سَاعَتِهِ إِذَا سَقَطَ عَلَى الأَرْضِ
5. وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْقَى إِلَى الِاحْتِلَامِ
6. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَمَّرُ حَتَّى يَصِيرَ شَيْخاً
فَكَيْفَ ذَلِكَ وَمَا وَجْهُهُ؟
فَقَالَ عليه السلام: إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْلَى بِمَا يُدَبِّرُهُ مِنْ أَمْرِ خَلْقِهِ مِنْهُمْ، وَهُوَ الخَالِقُ وَالمَالِكُ لَهُمْ: أي أنَّ فِعلَ الله تعالى تَصَرُّفٌ في ملكه، وهو أولى بهم من أنفسهم، فهو المالك لهم، وإن ملكوا شيئاً فبما ملَّكهم.
ثم يقول عليه السلام: فَمَنْ مَنَعَهُ التَّعْمِيرَ فَإِنَّمَا مَنَعَهُ مَا لَيْسَ لَهُ! وَمَنْ عَمَّرَهُ فَإِنَّمَا أَعْطَاهُ مَا لَيْسَ لَهُ!
إنَّ مَن أطالَ الله عمره فقد تفضَّل عليه، وليس له عند الله سابقةٌ يستحقُّ بها ذلك.
ومن منعه العمر الطويل فإنه تعالى لم يمنعه شيئاً يستحقُّه، ولا يجب على الله تعالى أن يعطيه شيئاً لكي يقال أنّه حرمه حقاً له.
وهذا المعنى في غاية الرَّوعة والدقّة والإنصاف.
ثم قال عليه السلام: فَهُوَ المُتَفَضِّلُ بِمَا أَعْطَاهُ، وَعَادِلٌ فِيمَا مَنَعَ، وَلا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ(71).
ثمَّ إنَّه تعالى لا يفعل بعباده إلا ما فيه خيرهم، فمَنعُهُ لا يكون إلا لصلاح العباد، كما قال السجاد عليه السلام: وَهَبْ لِيَ الثِّقَةَ لِأُقِرَّ مَعَهَا بِأَنَّ قَضَاءَكَ لَمْ يَجْرِ إِلَّا بِالخِيَرَةِ(72).
على أنَّ من حِكَمِ الاختلاف الأخرى بين الخلق هو امتحانهم، فقد سأل آدم عليه السلام ربَّه عن سرِّ الاختلاف بين الخلق، فقال تعالى: أَنَا الخَالِقُ العَالِمُ، بِعِلْمِي خَالَفْتُ بَيْنَ خَلْقِهِمْ.. وَبِعِلْمِيَ النَّافِذِ فِيهِمْ خَالَفْتُ بَيْنَ صُوَرِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ وَألوَانِهِمْ وَأَعْمَارِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ.
فَجَعَلْتُ مِنْهُمُ الشَّقِيَّ وَالسَّعِيدَ، وَالبَصِيرَ وَالأَعْمَى، وَالقَصِيرَ وَالطَّوِيلَ، وَالجَمِيلَ وَالدَّمِيمَ، وَالعَالِمَ وَالجَاهِلَ، وَالغَنِيَّ وَالفَقِيرَ، وَالمُطِيعَ وَالعَاصِيَ، وَالصَّحِيحَ وَالسَّقِيمَ، وَمَنْ بِهِ الزَّمَانَةُ وَمَنْ لَا عَاهَةَ بِهِ.
فَيَنْظُرُ الصَّحِيحُ إِلَى الَّذِي بِهِ العَاهَةُ فَيَحْمَدُنِي عَلَى عَافِيَتِهِ.
وَيَنْظُرُ الَّذِي بِهِ العَاهَةُ إِلَى الصَّحِيحِ فَيَدْعُونِي وَيَسْأَلُنِي أَنْ أُعَافِيَهُ، وَيَصْبِرُ عَلَى بَلَائِي فَأُثِيبُهُ جَزِيلَ عَطَائِي.
وَيَنْظُرُ الغَنِيُّ إِلَى الفَقِيرِ فَيَحْمَدُنِي وَيَشْكُرُنِي.
وَيَنْظُرُ الفَقِيرُ إِلَى الغَنِيِّ فَيَدْعُونِي وَيَسْأَلُنِي.
وَيَنْظُرُ المُؤْمِنُ إِلَى الكَافِرِ فَيَحْمَدُنِي عَلَى مَا هَدَيْتُهُ.
فَلِذَلِكَ خَلَقْتُهُمْ، لِأَبْلُوَهُمْ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَفِيمَا أُعَافِيهِمْ وَفِيمَا أَبْتَلِيهِمْ، وَفِيمَا أُعْطِيهِمْ وَفِيمَا أَمْنَعُهُمْ.
وَأَنَا الله المَلِكُ القَادِرُ.. لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَأَنَا أَسْأَلُ خَلْقِي عَمَّا هُمْ فَاعِلُونَ(73).
هي حكمةٌ عظيمة في الاختلاف دون ظُلمٍ، حين يرفع الله تعالى بعض الناس فوق بعضٍ ليبتلي هؤلاء وهؤلاء، ويُخالف بينهم ليمتحنهم: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)(74).
ولا يسألُ الله عن فعله لأنَّه المالك لكلِّ شيء، والمتصرِّفُ في ملكه، والحكيم الذي لا يفعل إلا وفق حكمته.
3. إنزال العذاب
قد يرى بعضُ العباد أنفسهم أصحابَ فضلٍ على ربِّهم إذا عبدوه! كأنَّ العبادة ترجع بالخير له دونهم! أو معهم! فيغفلون عن أنَّه تعالى غنيٌّ عن الخلائق أجمعين.
وقد يرى بعضهم لنفسه فضلاً إذا تابَ بعد المعصية! وكأنَّه تَفَضَّلَ على الله تعالى بالرجوع له والإنابة إليه!
وقد يرى بعضهم في إنزال العذاب عليه ظلماً! فيزعم أن لا تناسب بين المعصية وإنزال العذاب، ويغفل عن أنَّه قد عصى جبَّار السماوات والأرض، المالك له ولما ملَّكه، وأنه قد استحق العذاب ودخول النار من أول معصية وقعت منه! وأنَّ الله تعالى قد تفضَّل عليه أن لم يدخله النار حينها.
يكشف الإمام السجاد عليه السلام عن هذه المعاني في دعاءٍ تقشعرُّ له الأبدان، ويوجب على كلِّ عاقلٍ وقفةً صادقةً عميقةً مع الضمير.
يقول عليه السلام: يَا إِلَهِي لَوْ بَكَيْتُ إِلَيْكَ حَتَّى تَسْقُطَ أَشْفَارُ عَيْنَيَّ، وَانْتَحَبْتُ حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتِي، وَقُمْتُ لَكَ حَتَّى تَتَنَشَّرَ قَدَمَايَ، وَرَكَعْتُ لَكَ حَتَّى يَنْخَلِعَ صُلْبِي، وَسَجَدْتُ لَكَ حَتَّى تَتَفَقَّأَ حَدَقَتَايَ، وَأَكَلْتُ تُرَابَ الأَرْضِ طُولَ عُمُرِي، وَشَرِبْتُ مَاءَ الرَّمَادِ آخِرَ دَهْرِي، وَذَكَرْتُكَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ حَتَّى يَكِلَّ لِسَانِي، ثُمَّ لَمْ أَرْفَعْ طَرْفِي إِلَى آفَاقِ السَّمَاءِ اسْتِحْيَاءً مِنْكَ مَا اسْتَوْجَبْتُ بِذَلِكَ مَحْوَ سَيِّئَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ سَيِّئَاتِي.
وَإِنْ كُنْتَ تَغْفِرُ لِي حِينَ أَسْتَوْجِبُ مَغْفِرَتَكَ، وَتَعْفُو عَنِّي حِينَ أَسْتَحِقُّ عَفْوَكَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ لِي بِاسْتِحْقَاقٍ، وَلَا أَنَا أَهْلٌ لَهُ بِاسْتِيجَابٍ، إِذْ كَانَ جَزَائِي مِنْكَ فِي أَوَّلِ مَا عَصَيْتُكَ النَّارَ، فَإِنْ تُعَذِّبْنِي فَأَنْتَ غَيْرُ ظَالِمٍ لِي!(75).
إنَّ العبد يستحقُّ العقاب لأدنى معصية، لكنَّ الله تعالى يمهله، ويفتح له باباً للتوبة، ويوجب له محبته إن تاب! فيعفو عن السيئات ويحب التوابين! فهو يغفر بطَوله، ويرضى بفضله، ولو كافأنا بالحق أهلَكَنَا جميعاً!
إنَّ الناس إما مطيعٌ، وإما عاصٍ:
1. أما المطيع: فلولا أن الله تعالى قد كتب على نفسه العطاء له، وتَفَضَّل عليه بالثواب على ما وفَّقه له، لم يكن مستحقاً للثواب، يقول عليه السلام: وَلَوْ كَافَأْتَ المُطِيعَ عَلَى مَا أَنْتَ تَوَلَّيْتَهُ لَأَوْشَكَ أَنْ يَفْقِدَ ثَوَابَكَ، وَأَنْ تَزُولَ عَنْهُ نِعْمَتُكَ، وَلَكِنَّكَ بِكَرَمِكَ جَازَيْتَهُ عَلَى المُدَّةِ القَصِيرَةِ الفَانِيَةِ بِالمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الخَالِدَةِ.. وَلَمْ تَحْمِلْهُ عَلَى المُنَاقَشَاتِ فِي الآلَاتِ الَّتِي تَسَبَّبَ بِاسْتِعْمَالِهَا إِلَى مَغْفِرَتِكَ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِهِ لَذَهَبَ بِجَمِيعِ مَا كَدَحَ لَهُ وَجُمْلَةِ مَا سَعَى فِيهِ جَزَاءً لِلصُّغْرَى مِنْ أَيَادِيكَ وَمِنَنِكَ، وَلَبَقِيَ رَهِيناً بَيْنَ يَدَيْكَ بِسَائِرِ نِعَمِكَ، فَمَتَى كَانَ يَسْتَحِقُّ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِكَ!
فكلُّ طاعةٍ إنما كانت بما أعطى الله، ووفَّق له، فالله أولى بالحسنات من فاعلها!
2. وأمّا العاصي: فلولا أنَّ الله تعالى قد أمهله ولم يعاقبه من أول الأمر لما كان باب التوبة مفتوحاً له ولغيره، وما استحقّ عاصٍ البقاء في هذه الدنيا لحظة، يقول عليه السلام: فَأَمَّا العَاصِي أَمْرَكَ وَالمُوَاقِعُ نَهْيَكَ، فَلَمْ تُعَاجِلْهُ بِنَقِمَتِكَ لِكَيْ يَسْتَبْدِلَ بِحَالِهِ فِي مَعْصِيَتِكَ حَالَ الإِنَابَةِ إِلَى طَاعَتِكَ، وَلَقَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ فِي أَوَّلِ مَا هَمَّ بِعِصْيَانِكَ كُلَّ مَا أَعْدَدْتَ لِجَمِيعِ خَلْقِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. فَجَمِيعُ مَا أَخَّرْتَ عَنْهُ مِنَ العَذَابِ وَأَبْطَأْتَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ سَطَوَاتِ النَّقِمَةِ وَالعِقَابِ تَرْكٌ مِنْ حَقِّكَ، وَرِضًى بِدُونِ وَاجِبِكَ(76).
فليس في حكم الله تعالى ظلمٌ: إن عذَّبَ فبعدله، وإن عفا فبفضله.
ثانياً: العدل في مقابل الجبر
قد يُفهم من بعض النصوص القرآنية والروائية أنَّ الله تعالى قد أجبر العباد على أفعالهم، فلا قدرة لهم على الاختيار، سِيَّما إذا ضُمَّ إلى ذلك مسألة القضاء والقدر، التي يتوهَّمُ كثيرٌ من الناس دلالتها على أنَّ الله تعالى هو المدبِّرُ لأفعال العباد دون اختيارٍ لهم، فما كَتَبَ عليهم وقع، وهم لا يملكون تقديماً ولا تأخيراً، ولا تبديلاً ولا تغييراً.
وقد يلحظُ الباحثُ جملةً من مثل هذه النصوص في صحيفة السجاد عليه السلام، ففي الدُّعاء الأول منها: ابْتَدَعَ بِقُدْرَتِهِ الخَلْقَ ابْتِدَاعاً، وَاخْتَرَعَهُمْ عَلَى مَشِيَّتِهِ اخْتِرَاعاً. ثُمَّ سَلَكَ بِهِمْ طَرِيقَ إِرَادَتِهِ.. لَا يَمْلِكُونَ تَأْخِيراً عَمَّا قَدَّمَهُمْ إِلَيْهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَقَدُّماً إِلَى مَا أَخَّرَهُمْ عَنْهُ.
ومثله ما في الدُّعاء السادس: أَصْبَحْنَا فِي قَبْضَتِكَ، يَحْوِينَا مُلْكُكَ وَسُلْطَانُكَ، وَتَضُمُّنَا مَشِيَّتُكَ، وَنَتَصَرَّفُ عَنْ أَمْرِكَ، وَنَتَقَلَّبُ فِي تَدْبِيرِكَ. لَيْسَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ إِلَّا مَا قَضَيْتَ، وَلَا مِنَ الخَيْرِ إِلَّا مَا أَعْطَيْت.
وفي الصحيفة أيضاً: ذَلَّتْ لِقُدْرَتِكَ الصِّعَابُ، وَتَسَبَّبَتْ بِلُطْفِكَ الأَسْبَابُ، وَجَرَى بِقُدرَتِكَ القَضَاءُ، وَمَضَتْ عَلَى إِرَادَتِكَ الأَشْيَاءُ. فَهِيَ بِمَشِيَّتِكَ دُونَ قَوْلِكَ مُؤْتَمِرَةٌ، وَبِإِرَادَتِكَ دُونَ نَهْيِكَ مُنْزَجِرَةٌ(77).
فالله تعالى هو مُسَبِّبُ الأسباب، ومُجرِي القضاء، وشؤون العباد وأمورهم خاضعة لإرادته، فهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، ولا يستطيعون تقديماً ولا تأخيراً: لَيْسَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ إِلَّا مَا قَضَيْتَ.
وهذا معناه الجَبر، فالعبادُ ليسوا مختارين في شيء من أمورهم، إنما يجري عليهم القضاء بما شاء الله.
لكنَّ هذا المعنى ليس هو مقصود الإمام بحال، فإنَّ مشيئة الله تعالى لا تعني قَهرَهم على أفعالهم، ولا سلبهم اختيارهم.
بيان ذلك:
أنّ مشيئة الله لأفعال العباد تُتَصَوَّرُ على مَعَانٍ، منها:
1. المعنى الأول: أنّ كل ما يجري في الكون بما فيه أفعال العباد لا يخرُجُ عن سلطان الله تعالى وقدرته، فهو خاضعٌ لمشيئته سواءٌ أمرَ به أو نهى عنه.
ومن كلمات السجاد عليه السلام في هذا المعنى: مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، وَلَا قُوَّةَ لِي عَلَى الخُرُوجِ مِنْ سُلْطَانِكَ، وَلَا أَسْتَطِيعُ مُجَاوَزَةَ قُدْرَتِكَ(78).
وإنما أَمَرَ الله عباده ليختبرهم: ثُمَّ أَمَرَنَا لِيَخْتَبِرَ طَاعَتَنَا، وَنَهَانَا لِيَبْتَلِيَ شُكْرَنَا(79)، والعباد قادرون على مخالفة أمره ونهيه وإرادته ما لم يقهرهم، فهو أمرٌ تشريعيٌّ لا تكويني: اللهمَّ وَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ مَا خَالَفَ إِرَادَتَكَ.
2. المعنى الثاني: أنّه تعالى هو الذي أقدرَ العباد على أفعالهم، فأفعالهم إنما وقعت بمشيئته على إقدارهم ونفوذ إرادتهم.
3. أنّه تعالى لم يمنعهم من أفعالهم بالقهر والجبر.
كما في قوله تعالى: (ولَوْ شاءَ الله ما أَشْرَكُوا)(80)، فلو شاء لقَهَرَهُم على الإيمان، لكنّه شاء أن يكونوا مختارين، يؤمن منهم من شاء عن بيّنة، ويكفر من شاء عن بيّنة.
وكما في قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ)(81).
فالله تعالى يقدر أن يجعلهم جميعاً مؤمنين، لكنّ هذا إكراهٌ يبطل به الثواب والعقاب، وهو ينافي حكمةَ الله تعالى.
وقد بَيَّنَ أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه عند منصرفه من صفين أنَّ القضاء والقدر لا يعني الحتم والجبر في أفعال العباد، فقال لهم: مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً وَلَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ الا بِقَضَاءٍ مِنَ الله وَقَدَرٍ! وَلَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِكُمْ مُكْرَهِينَ، وَلَا اليْهِ مُضْطَرِّينَ..
وَتَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ قَضَاءً حَتْماً، وَقَدَراً لَازِماً؟!
إِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ، وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالزَّجْرُ مِنَ الله(82).
الفصل الثالث: النبوة والإمامة
لقد اختار الله سبحانه وتعالى أنبياء ورسلاً من خلقه، وجعلهم سفراءه إلى عباده، اصطفاهم وطَهَّرَهُم ورفع قدرهم وشأنهم، وجعل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتمهم وصفوتهم، وجعل أهل بيته خلفاء أصفياء، ثمَّ جعل خليقته منقادةً لهم وصائرة إلى طاعتهم.
وقد كشف الإمام السجَّادُ عليه السلام في صحيفته المباركة عن بعض مراتب النبوَّة والإمامة، سيَّما مراتب النبيّ الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمة من بنيه عليهم السلام، ومن ذلك:
1. أنَّ النبيَّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو أفضل الخلق على الإطلاق
فمنزلته لا تُدانى، ومرتبته لا تجارى، لا يبلغ الخلقُ كنه معرفته، ولا رفيع درجته.
يقول السجاد عليه السلام: اللهمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ.. نَجِيبِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَصَفِيِّكَ مِنْ عِبَادِكَ.
ويقول عنه عليه السلام: اللهمَّ فَارْفَعْهُ بِمَا كَدَحَ فِيكَ إِلَى الدَّرَجَةِ العُلْيَا مِنْ جَنَّتِكَ، حَتَّى لَا يُسَاوَى فِي مَنْزِلَةٍ، وَلَا يُكَافَأَ فِي مَرْتَبَةٍ، وَلَا يُوَازِيَهُ لَدَيْكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَل(83).
ويقول عليه السلام: اللهمَّ اجْعَلْ نَبِيَّنَا صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ أَقْرَبَ النَّبِيِّينَ مِنْكَ مَجْلِساً، وَأَمْكَنَهُمْ مِنْكَ شَفَاعَةً، وَأَجَلَّهُمْ عِنْدَكَ قَدْراً، وَأَوْجَهَهُمْ عِنْدَكَ جَاهاً(84).
أمّا أهل بيته فهم مُنَزَّلون منزلته، مطَهَّرون كما طُهِّر: رَبِّ صَلِّ عَلَى أَطَايِبِ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ اخْتَرْتَهُمْ لِأَمْرِكَ، وَجَعَلْتَهُمْ خَزَنَةَ عِلْمِكَ، وَحَفَظَةَ دِينِكَ، وَخُلَفَاءَكَ فِي أَرْضِكَ، وَحُجَجَكَ عَلَى عِبَادِكَ، وَطَهَّرْتَهُمْ مِنَ الرِّجْسِ وَالدَّنَسِ تَطْهِيراً بِإِرَادَتِكَ.
وإذا كان الاجتباء على درجاتٍ ومراتب، فإنَّ أعلى درجاته كانت له صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل بيته عليهم السلام.
2. أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أمينُ الله على وحيه
قال عليه السلام: اللهمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ أَمِينِكَ عَلَى وَحْيِكَ..
وإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أمين الله على وحيه فلا عجب أن يكون حبل طاعته متصلاً بحبل طاعة الله: بِحَقِّ مَنْ وَصَلْتَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِكَ، وَمَنْ جَعَلْتَ مَعْصِيَتَهُ كَمَعْصِيَتِكَ، بِحَقِّ مَنْ قَرَنْتَ مُوَالاتَهُ بِمُوَالاتِكَ، وَمَنْ نُطْتَ مُعَادَاتَهُ بِمُعَادَاتِكَ(85).
وهذا لا يكون إلا للمعصوم، الذي يملك مفاتيح علم الله، وعنده خزائنه، لا يفعل إلا طاعةً، ولا يأمر إلا حقاً.
أما أن تتصل طاعة غير المعصوم بطاعة الله كما يزعم الزاعمون، فهو ممّا دلَّ العقل على بطلانه، إلا اللهم أن تكون طاعة مقيَّدةً بِحدودها لا تُشاكل طاعة المعصوم التي لا حدَّ لها.
ثمَّ إنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان أميناً لله على كلِّ مخلوقاته، وحجَّةً على عالم التكوين بأسره، كما يشير إليه الدعاء: خَاتِمِ أَنْبِيَائِكَ، وَحُجَّتِكَ الْبَالِغَةِ فِي أَرْضِكَ وَسَمَائِك(86).
بل أجرى الله تعالى طاعته صلى الله عليه وآله وسلم وطاعة أهل بيته عليهم السلام على البريَّة قاطبةً، قال السجاد عليه السلام: وَالحَمْدُ لله الَّذِي اخْتَارَ لَنَا مَحَاسِنَ الخَلْقِ، وَأَجْرَى عَلَيْنَا طَيِّبَاتِ الرِّزْقِ. وَجَعَلَ لَنَا الفَضِيلَةَ بِالمَلَكَةِ عَلَى جَمِيعِ الخَلْقِ، فَكُلُّ خَلِيقَتِهِ مُنْقَادَةٌ لَنَا بِقُدْرَتِهِ، وَصَائِرَةٌ إِلَى طَاعَتِنَا بِعِزَّتِهِ(87).
وعن الإمام الجواد عليه السلام في خلقهم عليهم السلام وخلق الأشياء: ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ فَأَشْهَدَهُمْ خَلْقَهَا وَأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا(88).
3. أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم: إِمَام الرَّحْمَةِ، وَقَائِد الخَيْرِ، وَمِفْتَاح البَرَكَةِ
فكلُّ رحمةٍ وخيرٍ وبركةٍ ترجع إليه صلى الله عليه وآله وسلم، لأنَّه بابُ الله الذي منه يؤتى، به وبأهل بيته يكشف الله الكرب، وينزل الغيث، ويحفظ الأرض أن تسيخ بأهلها.
وفي الحديث القدسيّ: لَوْلَاكَ مَا خَلَقْتُ الْأَفْلَاكِ، وَلَا الدُّنْيَا وَلَا الْأَرْض(89).
لذا ساغ بل وجب التوجه بهم إلى الله تعالى، رغم كونهم فقراء إليه عزَّ وجل، إلا أنَّه أعطاهم وجعلهم أبواباً له.
يقول السجاد عليه السلام: سُبْحَانَ رَبِّي كَيْفَ يَسْأَلُ مُحْتَاجٌ مُحْتَاجاً؟! وَأَنَّى يَرْغَبُ مُعْدمٌ إِلَى مُعْدمٍ؟!(90).
ويقول عليه السلام: وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ المُحْتَاجِ إِلَى المُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأْيِهِ وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ!(91).
فإنَّ كلَّ طلبٍ من فقيرٍ ومحتاجٍ مرجوحٌ فاسدٌ، إلا أن يكون هذا الفقيرُ فقيراً بنفسه، غنياً بربِّه، جعله الله باباً وصراطاً وطريقاً له.
لذا يعود عليه السلام ويقول: وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ.. وَاجْعَلْ ذَلِكَ عَوْناً لِي وَسَبَباً لِنَجَاحِ طَلِبَتِي.. فَأَسْأَلُكَ بِكَ وَبِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ، صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِمْ، أَن لَا تَرُدَّنِي خَائِباً(92).
ويقول عليه السلام: فَإِنِّي لَمْ آتِكَ ثِقَةً مِنِّي بِعَمَلٍ صَالِحٍ قَدَّمْتُهُ، وَلَا شَفَاعَةِ مَخْلُوقٍ رَجَوْتُهُ إِلَّا شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ سَلَامُكَ(93).
4. أنَّه لا بدَّ من إمامٍ بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
يقومُ مقامه، ويتَّصف بصفاته إلا النبوَّة، ويؤدي دوره، يقيم الكتاب والحدود، والشرائع والسُّنن، ويحيي معالم الدين.
يقول عليه السلام: اللهمَّ إِنَّكَ أَيَّدْتَ دِينَكَ فِي كُلِّ أَوَانٍ بِإِمَامٍ أَقَمْتَهُ عَلَماً لِعِبَادِكَ، وَمَنَاراً فِي بِلَادِكَ بَعْدَ أَنْ وَصَلْتَ حَبْلَهُ بِحَبْلِكَ، وَجَعَلْتَهُ الذَّرِيعَةَ إِلَى رِضْوَانِكَ، وَافْتَرَضْتَ طَاعَتَهُ، وَحَذَّرْتَ مَعْصِيَتَهُ، وَأَمَرْتَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عِنْدَ نَهْيِهِ، وَأَلَّا يَتَقَدَّمَهُ مُتَقَدِّمٌ، وَلَا يَتَأَخَّرَ عَنْهُ مُتَأَخِّرٌ، فَهُوَ عِصْمَةُ اللَّائِذِينَ، وَكَهْفُ المُؤْمِنِينَ وَعُرْوَةُ المُتَمَسِّكِينَ، وَبَهَاءُ العَالَمِينَ(94).
لا بدَّ أن يكون هذا الإمام على أعلى درجات العلم والمعرفة والطاعة والإخلاص والطهارة، متفرِّداً بالكمال، مقترناً أمره بأمر الله، فلا يجوز التقدُّم عليه ولا التأخر عنه، ولا الردُّ عليه.
5. حكمة الله في تفضيل الأنبياء والأوصياء
إنَّ الله تعالى أعطى الأطهار ما أعطى لسبق علمه بما هم عليه من الطاعة والانقياد، كما في الحديث القدسي: أَنَا الخَالِقُ العَالِمُ، بِعِلْمِي خَالَفْتُ بَيْنَ خَلْقِهِمْ(95).
يقول السجاد عليه السلام عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: اللهمَّ فَارْفَعْهُ بِمَا كَدَحَ فِيكَ إِلَى الدَّرَجَةِ العُلْيَا مِنْ جَنَّتِكَ.
فقد قَدَّم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الغالي والنفيس دفاعاً عن دين الله وإعزازاً له، كما يصفه السجاد عليه السلام: وَعَرَّضَ فِيكَ لِلْمَكْرُوهِ بَدَنَهُ، وَكَاشَفَ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْكَ حَامَّتَهُ، وَحَارَبَ فِي رِضَاكَ أُسْرَتَهُ، وَقَطَعَ فِي إِحْيَاءِ دِينِكَ رَحِمَهُ، وَأَقْصَى الأَدْنَيْنَ عَلَى جُحُودِهِمْ.. وَوَالَى فِيكَ الأَبْعَدِينَ، وَعَادَى فِيكَ الأَقْرَبِينَ.. وَهَاجَرَ إِلَى بِلَادِ الغُربَةِ، وَمَحَلِّ النَّأْيِ عَنْ مَوْطِنِ رَحْلِهِ، وَمَوْضِعِ رِجْلِهِ، وَمَسْقَطِ رَأْسِهِ، وَمَأْنَسِ نَفْسِهِ، إِرَادَةً مِنْهُ لِإِعْزَازِ دِينِكَ، وَاسْتِنْصَاراً عَلَى أَهْلِ الكُفْرِ بِكَ(96).
ولمّا كان الله تعالى عالماً بما كان قبل أن يكون، وبما سيصير عليه الأنبياء والأولياء من الطاعة قبل امتحانهم، خَصَّهم بأن خَلَقَهم على أعلى درجات الكمال، فصنعهم على عينه، ووفقهم لطاعته، وعصمهم عن معصيته، دون جَبرٍ أو قهرٍ، بل عن اختيارٍ تامٍّ، فالعصمة لا تسلب المعصوم اختياره بحال.
6. أنَّه تعالى أنزل القرآن على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم نوراً وهداية
يقول عليه السلام: اللهمَّ إِنَّكَ أَعَنْتَنِي عَلَى خَتْمِ كِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَهُ نُوراً، وَجَعَلْتَهُ مُهَيْمِناً عَلَى كُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلْتَهُ، وَفَضَّلْتَهُ عَلَى كُلِّ حَدِيثٍ قَصَصْتَهُ.. وَجَعَلْتَهُ نُوراً نَهْتَدِي مِنْ ظُلَمِ الضَّلَالَةِ وَالجَهَالَةِ بِاتِّبَاعِهِ، وَشِفَاءً لِمَنْ أَنْصَتَ بِفَهَمِ التَّصْدِيقِ إِلَى اسْتِمَاعِه، وَمِيزَانَ قِسْطٍ لَا يَحِيفُ عَنِ الحَقِّ لِسَانُهُ، وَنُورَ هُدًى لَا يَطْفَأُ عَنِ الشَّاهِدِينَ بُرْهَانُهُ، وَعَلَمَ نَجَاةٍ لَا يَضِلُّ مَنْ أَمَّ قَصْدَ سُنَّتِهِ، وَلا تَنَالُ أَيْدِي الهَلَكَاتِ مَنْ تَعَلَّقَ بِعُرْوَةِ عِصْمَتِهِ.
ثمَّ أورثه أهل بيته الأطهار: اللهمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَهُ عَلَى نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم مُجْمَلًا، وَالهَمْتَهُ عِلْمَ عَجَائِبِهِ مُكَمَّلًا، وَوَرَّثْتَنَا عِلْمَهُ مُفَسَّراً، وَفَضَّلْتَنَا عَلَى مَنْ جَهِلَ عِلْمَهُ، وَقَوَّيْتَنَا عَلَيْهِ لِتَرْفَعَنَا فَوْقَ مَنْ لَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ(97).
فجعل الله للهداية بالقرآن شروطاً، حين خصَّ آل محمدٍ عليهم السلام بعلم القرآن، فجعله كتاباً صامتاً، وجعل الإمام منهم ناطقاً، مُعبِّراً عنه، قَيِّماً عليه، ما قال فيه من شيءٍ كان حقّاً، وجعل القرآن باباً للإرشاد إلى الإمام، فمن اتبعه صار القرآن ربيعاً لقلبه، ونوراً لبصره، وجلاءً لحزنه، وذهاباً لهمّه.
بغير الإمام المفسِّر للقرآن تكون الهداية منقوصةً، وأعلام الضلالة مرفوعةً: إِنَّ عِلْمَ القُرْآنِ لَيْسَ يَعْلَمُ مَا هُوَ إِلَّا مَنْ ذَاقَ طَعْمَهُ.. فَاطْلُبُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ خَاصَّةً، فَإِنَّهُمْ خَاصَّةً نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ، وَأَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ(98).
7. أن كلَّ من عادى الرسل والأولياء ملعونٌ عند الله
فالإمام عليه السلام يدعو لأتباع الرُّسل ومصدِّقيهم والمحسنين منهم، ويعدُّهم مستحقين للثناء دون سواهم من المكذِّبين، حتى لو كانوا من الصحابة والتابعين.
فبعد الصلاة عليهم عموماً، يذكر الإمام عليه السلام أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خاصَّة، لكن لا على نحو المجموع، بل يخصُّ الذين توفرت فيهم خصالٌ معينة، أي: الَّذِينَ أَحْسَنُوا الصَّحَابَةَ، وَالَّذِينَ أَبْلَوُا البَلَاءَ الحَسَنَ فِي نَصْرِهِ، وَكَانَفُوهُ، وَأَسْرَعُوا إِلَى وِفَادَتِهِ، وَسَابَقُوا إِلَى دَعْوَتِهِ، وَاسْتَجَابُوا لَهُ حَيْثُ أَسْمَعَهُمْ حُجَّةَ رِسَالاتِهِ. وَفَارَقُوا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلَادَ فِي إِظْهَارِ كَلِمَتِهِ، وَقَاتَلُوا الآبَاءَ وَالأَبْنَاءَ فِي تَثْبِيتِ نُبُوَّتِهِ، وَانْتَصَرُوا بِهِ.. فَلَا تَنْسَ لَهُمُ اللهمَّ مَا تَرَكُوا لَكَ وَفِيكَ(99).
أمّا من لم يحسن منهم لم يكن مستحقاً لشيءٍ من الفضل، سيَّما من سلب حقَّ الله الذي أعطاه لأوليائه، حينما جعلهم خلفاء في أرضه وسمائه.
فقد منع جمعٌ من الصحابة آل محمدٍ عليهم السلام عن حقِّهم، وتواطأ الآخرون أو رضوا بأفعالهم، فصاروا شركاء فيها.
يقول عليه السلام في دعاء الأضحى والجمعة: اللهمَّ إِنَّ هَذَا المَقَامَ لِخُلَفَائِكَ وَأَصْفِيَائِكَ وَمَوَاضِعَ أُمَنَائِكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ الَّتِي اخْتَصَصْتَهُمْ بِهَا قَدِ ابْتَزُّوهَا، وَأَنْتَ المُقَدِّرُ لِذَلِكَ، لَا يُغَالَبُ أَمْرُكَ، وَلَا يُجَاوَزُ المَحْتُومُ مِنْ تَدْبِيرِكَ.. حَتَّى عَادَ صِفْوَتُكَ وَخُلَفَاؤُكَ مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ مُبْتَزِّينَ، يَرَوْنَ حُكْمَكَ مُبَدَّلًا، وَكِتَابَكَ مَنْبُوذاً، وَفَرَائِضَكَ مُحَرَّفَةً عَنْ جِهَاتِ أَشْرَاعِكَ، وَسُنَنَ نَبِيِّكَ مَتْرُوكَةً. اللهمَّ العَنْ أَعْدَاءَهُمْ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَمَنْ رَضِيَ بِفِعَالِهِمْ وَأَشْيَاعَهُمْ وَأَتْبَاعَهُمْ.
فصارت البراءة من أعداء الله وأعداء أنبيائه وأوليائه ركناً لا يتمُّ الدِّين إلا به، وصار اللعنُ عليهم وعلى أشياعهم سنَّةً لأنبياء الله ورسله وأتباعهم إلى يوم القيامة.
الفصل الرابع: الموت والمعاد
إنَّ الموتَ هو بابُ الآخرة، يشتركُ جميعُ الخلق فيه، ويختلفون في نظرتهم إليه.
يقول السجاد عليه السلام: سُبْحَانَكَ! قَضَيْتَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِكَ المَوْتَ: مَنْ وَحَّدَكَ وَمَنْ كَفَرَ بِكَ، وَكُلٌّ ذَائِقُ المَوْتِ، وَكُلٌّ صَائِرٌ إِلَيْكَ(100).
لكنَّ المؤمن الموحد لا ينظر إلى الموت كما ينظر إليه الكافر، فإنَّه وإن أحبَّ الحياة ليطيع الله فيها، إلا أنه يبغضها إذا علم أنَّه سيغرق في معصية ربه فيها، فيقول كما علمه السجاد عليه السلام: اللهمَّ.. عَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمُرِي بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإِذَا كَانَ عُمُرِي مَرْتَعاً لِلشَّيْطَانِ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ(101).
المؤمن لا يطيل الأمل في حياته، فطول الأمَل يغري بالمعاصي، يقول عليه السلام: اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْفِنَا طُولَ الأَمَلِ، وَقَصِّرْهُ عَنَّا بِصِدْقِ العَمَلِ حَتَّى لَا نُؤَمِّلَ اسْتِتْمَامَ سَاعَةٍ بَعْدَ سَاعَةٍ، وَلَا اسْتِيفَاءَ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ، وَلَا اتِّصَالَ نَفَسٍ بِنَفَسٍ، وَلَا لُحُوقَ قَدَمٍ بِقَدَمٍ.. وَانْصِبِ المَوْتَ بَيْنَ أَيْدِينَا نَصْباً، وَلَا تَجْعَلْ ذِكْرَنَا لَهُ غِبّاً.. حَتَّى يَكُونَ المَوْتُ مَأْنَسَنَا الَّذِي نَأْنَسُ بِهِ، وَمَأْلَفَنَا الَّذِي نَشْتَاقُ إِلَيْهِ، وَحَامَّتَنَا الَّتِي نُحِبُّ الدُّنُوَّ مِنْهَا، فَإِذَا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنَا وَأَنْزَلْتَهُ بِنَا فَأَسْعِدْنَا بِهِ زَائِراً، وَآنِسْنَا بِهِ قَادِماً، وَلَا تُشْقِنَا بِضِيَافَتِهِ، وَلَا تُخْزِنَا بِزِيَارَتِهِ، وَاجْعَلْهُ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ مَغْفِرَتِكَ، وَمِفْتَاحاً مِنْ مَفَاتِيحِ رَحْمَتِك(102).
ما أعظم هذا المعنى.. فالموتُ الذي يفرُّ منه أكثر النَّاس يرى المؤمنُ فيه أُنساً إذا حانه وقته، يراه زائراً ينقله إلى نعيم الأبد، فهو إذا ما وهبه الله عمراً عَمَرَهُ بطاعة الله، وإذا حانت مَنيَّتُه علم أنَّهُ مقبلٌ على جنَّةٍ يشتاقها، فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وإنَّما يصيرُ الموت كذلك لمن أطاع الله في أحبِّ الأشياء إليه، ورعى حقَّ الله في الثقلين، وعمل بما أمر الله من التمسُّك بهما، فيظهر أثر ذلك عنده موته:
1. أمَّا الثِّقل الأول، فلأنَّ أجمَلَ ما في موت المؤمن هو حضور النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام، والأئمة الأطهار عند الميت، فيُبشَّر حينها بمرافقتهم: فَمَا شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنِ اسْتِلَالِ رُوحِهِ وَاللُّحُوقِ بِالمُنَادِي.
ذاكَ حيثُ يقول له رسول صلى الله عليه وآله وسلم: أَبْشِرْ، أَنَا رَسُولُ الله، إِنِّي خَيْرٌ لَكَ مِمَّا تَرَكْتَ مِنَ الدُّنْيَا!
ويقول له أمير المؤمنين عليه السلام: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي كُنْتَ تُحِبُّهُ، أَمَا لَأَنْفَعَنَّكَ(103).
حينها تصيرُ الملائكةُ طوعَ أمره كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ مَلَكَ المَوْتِ لَيَقِفُ مِنَ المُؤْمِنِ عِنْدَ مَوْتِهِ مَوْقِفَ العَبْدِ الذَّلِيلِ مِنَ المَوْلَى، فَيَقُومُ وَأَصْحَابُهُ لَا يَدْنُونَ مِنْهُ حَتَّى يَبْدَأَهُ بِالتَّسْلِيمِ، وَيُبَشِّرَهُ بِالجَنَّةِ(104).
أما عدوهم فليس حاله بأحسن من الكافر بالله، الذي تبدأ عذاباته منذ لحظة الموت، حين: يَجِيئُهُ مَلَكُ المَوْتِ بِوَجْهٍ كَرِيهٍ كَالِحٍ! عَيْنَاهُ كَالبَرْقِ الخَاطِفِ! وَصَوْتُهُ كَالرَّعْدِ القَاصِفِ! لَوْنُهُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ! نَفَسُهُ كَلَهَبِ النَّارِ! رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَرِجْلٌ فِي المَشْرِقِ، وَرِجْلٌ فِي المَغْرِبِ! وَقَدَمَاهُ فِي الهَوَاءِ!
ثمَّ يعذَّب عند قبض روحه بما لو كان له: قُوَّة الجِنِّ وَالإِنْسِ لَاشْتَكَى كُلُّ عِرْقٍ مِنْهُ عَلَى حِيَالِهِ!
ثمَّ: تَخْرُجُ رُوحُهُ، فَيَضَعُهَا مَلَكُ المَوْتِ بَيْنَ مِطْرَقَةٍ وَسِنْدَانٍ! فَيَفْضَخُ أَطْرَافَ أَنَامِلِهِ!(105).
2. وأما الثِّقل الآخر، فلأنَّ القرآن يهوِّن سكرات الموت، وما أعجب ما قاله السجَّاد عليه السلام عن تلك الساعة الغريبة، في دعاءٍ يستحقُّ أن يُخطَّ بماء الذَّهب، ذاك حين يقول عليه السلام: اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَهَوِّنْ بِالقُرْآنِ عِنْدَ المَوْتِ عَلَى أَنْفُسِنَا كَرْبَ السِّيَاقِ، وَجَهْدَ الأَنِينِ، وَتَرَادُفَ الحَشَارِجِ إِذَا بَلَغَتِ النُّفُوسُ التَّراقِيَ، وَقِيلَ مَنْ راقٍ، وَتَجَلَّى مَلَكُ المَوْتِ لِقَبْضِهَا مِنْ حُجُبِ الغُيُوبِ، وَرَمَاهَا عَنْ قَوْسِ المَنَايَا بِأَسْهُمِ وَحْشَةِ الفِرَاقِ، وَدَافَ لَهَا مِنْ ذُعَافِ المَوْتِ كَأْساً مَسْمُومَةَ المَذَاقِ، وَدَنَا مِنَّا إِلَى الآخِرَةِ رَحِيلٌ وَانْطِلَاقٌ، وَصَارَتِ الأَعْمَالُ قَلَائِدَ فِي الأَعْنَاقِ، وَكَانَتِ القُبُورُ هِيَ المَأْوَى إِلَى مِيقَاتِ يَوْمِ التَّلَاقِ.
اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي حُلُولِ دَارِ البِلَى، وَطُولِ المُقَامَةِ بَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرَى، وَاجْعَلِ القُبُورَ بَعْدَ فِرَاقِ الدُّنْيَا خَيْرَ مَنَازِلِنَا، وَافْسَحْ لَنَا بِرَحْمَتِكَ فِي ضِيقِ مَلَاحِدِنَا، وَلَا تَفْضَحْنَا فِي حَاضِرِي القِيَامَةِ بِمُوبِقَاتِ آثَامِنَا(106).
تظهر الرَّحمة لمن رعى الثقلين منذ ساعة موته، وإلى سائر مواقف القيامة.
أما القرآن الكريم: وَارْحَمْ بِالقُرْآنِ فِي مَوْقِفِ العَرْضِ عَلَيْكَ ذُلَّ مَقَامِنَا، وَثَبِّتْ بِهِ عِنْدَ اضْطِرَابِ جِسْرِ جَهَنَّمَ يَوْمَ المَجَازِ عَلَيْهَا زَلَلَ أَقْدَامِنَا، وَنَوِّرْ بِهِ قَبْلَ البَعْثِ سُدَفَ قُبُورِنَا، وَنَجِّنَا بِهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشَدَائِدِ أَهْوَالِ يَوْمِ الطَّامَّةِ، وَبَيِّضْ وُجُوهَنَا يَوْمَ تَسْوَدُّ وُجُوهُ الظَّلَمَةِ فِي يَوْمِ الحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ(107).
وأما النبي والعترة، فإن المؤمن بهم يحشر يوم القيامة آمناً حين يخاف الناس، مطمئناً حين يرتعبون: وَأَمَّا عَدُوُّنَا المُخَالِفُ عَلَيْنَا فَهُوَ المُبَشَّرُ بِعَذَابِ الأَبَدِ(108).
هذا جزاء من عصى الله بأعظم معصيةٍ بعد الكفر والشرك، وهي معاداة آل محمدٍ عليهم السلام.
ثم يأتيهم عذاب القيامة.. الذي يستعيذ منه المؤمن، كما علمه السجاد عليه السلام: اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ نَارٍ تَغَلَّظْتَ بِهَا عَلَى مَنْ عَصَاكَ، وَتَوَعَّدْتَ بِهَا مَنْ صَدَفَ عَنْ رِضَاكَ، وَمِنْ نَارٍ نُورُهَا ظُلْمَةٌ، وَهَيِّنُهَا أَلِيمٌ، وَبَعِيدُهَا قَرِيبٌ، وَمِنْ نَارٍ يَأْكُلُ بَعْضَهَا بَعْضٌ، وَيَصُولُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْ نَارٍ تَذَرُ العِظَامَ رَمِيماً، وَتَسقِي أَهْلَهَا حَمِيماً، وَمِنْ نَارٍ لَا تُبْقِي عَلَى مَنْ تَضَرَّعَ إِلَيْهَا، وَلَا تَرْحَمُ مَنِ اسْتَعْطَفَهَا، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخْفِيفِ عَمَّنْ خَشَعَ لَهَا وَاسْتَسْلَمَ إِلَيْهَا، تَلْقَى سُكَّانَهَا بِأَحَرِّ مَا لَدَيْهَا مِنْ أَلِيمِ النَّكَالِ وَشَدِيدِ الوَبَالِ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَقَارِبِهَا الفَاغِرَةِ أَفْوَاهُهَا، وَحَيَّاتِهَا الصَّالِقَةِ بِأَنْيَابِهَا، وَشَرَابِهَا الَّذِي يُقَطِّعُ أَمْعَاءَ وَأَفْئِدَةَ سُكَّانِهَا، وَيَنْزِعُ قُلُوبَهُمْ، وَأَسْتَهْدِيكَ لِمَا بَاعَدَ مِنْهَا، وَأَخَّرَ عَنْهَا(109).
في كلِّ كلمةٍ من هذه الكلمات درسٌ وعبرةٌ لمن اعتبر، فالمؤمن في نعيمٍ لا يمكن لنا تخيُّله على حقيقته، والكافر في جحيم لا قِبَلَ لأحد من الناس به.
ذلك يوم العدل الإلهي، يوم يقتصُّ الله للمظلوم من الظالم، ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقّه.
وذلك يوم المخاصمة والعرض على الله تعالى.
وذلك يومٌ تقرُّ فيه عيون الصالحين، ويقول الكافر يا ليتني كنتُ تراباً.
نستجير بالله من ساعة الموت، ووحشة القبر، وموقف العرض، ونسأله الشفاعة بإمامنا السجاد عليه السلام، وسادتنا الأطهار الأطياب.
الخاتمة
إنَّ لله ملائكةً لا يصيبهم سأمٌ ولا فتورٌ من عبادة الله، لا ينشغلون عنها بشهوةٍ أو غفلةٍ، ولا يكفُّون عن تعظيم أمره، وهم مع ذلك يُقِرُّون لله تعالى فيقولون: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ!(110).
فما بالُنا نحنُ العصاة! الذين نتجرَّأ على الله بما خلق لنا من آلاتٍ لزم أن نطيعه بها، فجعلناها أداةً للمعصية!
رغم ذلك فتح لنا باب التوبة، ووعدنا باستجابة الدعاء، فصرنا ندعو بما علمنا السجاد عليه السلام: اللهمَّ وَمَتَى وَقَفْنَا بَيْنَ نَقْصَيْنِ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا، فَأَوْقِعِ النَّقْصَ بِأَسْرَعِهِمَا فَنَاءً، وَاجْعَلِ التَّوْبَةَ فِي أَطْوَلِهِمَا بَقَاءً(111).
ورغم اتباعنا للشيطان على غير عمىً ولا نسيان، مع عِلمِنا بأن منتهى دعوته إلى النار، إلا أن الله تعالى يمهلنا بواسع رحمته، ولسان حال أحدنا يقول:
سُبْحَانَكَ!! مَا أَعْجَبَ مَا أَشْهَدُ بِهِ عَلَى نَفْسِي، وَأُعَدِّدُهُ مِنْ مَكْتُومِ أَمْرِي. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَاتُكَ عَنِّي، وَإِبْطَاؤُكَ عَنْ مُعَاجَلَتِي، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ كَرَمِي عَلَيْكَ، بَلْ تَأَنِّياً مِنْكَ لِي، وَتَفَضُّلًا مِنْكَ عَلَيَّ لِأَنْ أَرْتَدِعَ عَنْ مَعْصِيَتِكَ المُسْخِطَةِ، وَأُقْلِعَ عَنْ سَيِّئَاتِيَ المُخْلِقَةِ، وَلِأَنَّ عَفْوَكَ عَنِّي أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ عُقُوبَتِي(112).
المؤمنون يحمدون الله تعالى على ما وفَّقهم لمعرفته، ومعرفة توحيده وعدله، وأرشدهم إلى ولاية ولاة أمره، وكانت صحيفة السجَّاد عليه السلام من أعظم أبواب المعرفة، بأفضل لسانٍ وأجمل بيان.
إنَّ ما يشفع لنا عند ربنا قد ورد في دعاء إمامنا: قَدَّمْتُ تَوْحِيدَكَ وَنَفْيَ الأَضْدَادِ وَالأَنْدَادِ وَالأَشْبَاهِ عَنْكَ، وَأَتَيْتُكَ مِنَ الأَبْوَابِ الَّتِي أَمَرْتَ أَنْ تُؤْتَى مِنْهَا، وَتَقَرَّبْتُ إِلَيْكَ بِمَا لَا يَقْرُبُ أَحَدٌ مِنْكَ إِلَّا بالتَّقَرُّبِ بِهِ(113).
ولمَّا تفضَّل علينا ربُّنا بكلِّ هذا، عُدنا لنستعين به على الشيطان الرجيم، عدوِّه وعدوِّنا، فقلنا كما قال إمامنا السجاد عليه السلام: اللهمَّ لَا تَجْعَلْ لَهُ فِي قُلُوبِنَا مَدْخَلًا، وَلَا تُوطِنَنَّ لَهُ فِيمَا لَدَيْنَا مَنْزِلًا.. اللهمَّ وَأَشْرِبْ قُلُوبَنَا إِنْكَارَ عَمَلِهِ، وَالطُفْ لَنَا فِي نَقْضِ حِيَلِهِ.. اللهمَّ وَاعْمُمْ بِذَلِكَ مَنْ شَهِدَ لَكَ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَخْلَصَ لَكَ بِالوَحْدَانِيَّةِ، وَعَادَاهُ لَكَ بِحَقِيقَةِ العُبُودِيَّةِ، وَاسْتَظْهَرَ بِكَ عَلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ العُلُومِ الرَّبَّانِيَّةِ.. اللهمَّ اجْعَلْنَا فِي نَظْمِ أَعْدَائِهِ، وَاعْزِلْنَا عَنْ عِدَادِ أَوْلِيَائِهِ(114)..
اللهم: هَبْ لِي نُوراً أَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، وَأَهْتَدِي بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ، وَأَسْتَضِيءُ بِهِ مِنَ الشَّكِّ وَالشُّبُهَات.
والحمد لله رب العالمين
الخميس 18 شوال 1446 هـ الموافق 17 – 4 – 2025 م
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
https://aliiman.net/books/Articles-Magazines/Sahifa-Sajadia.pdf
(1) الصحيفة السجادية الدعاء47 يوم عرفة.
(2) الكافي ج1 ص200، عن الإمام الرضا عليه السلام.
(3) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(4) التوحيد للصدوق ص83.
(5) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(6) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(7) الصحيفة السجادية الدعاء28.
(8) التوحيد للصدوق ص83.
(9) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(10) الصحيفة السجادية الدعاء الأول.
(11) الصحيفة السجادية الدعاء28.
(12) الصحيفة السجادية الدعاء32.
(13) الكافي ج1 ص140.
(14) لا تُخدَع، ولا تُبَعَّد أو تُنحَّى.
(15) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(16) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(17) الصحيفة السجادية الدعاء45.
(18) الصحيفة السجادية الدعاء الأول.
(19) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(20) الصحيفة السجادية الدعاء الخامس.
(21) الصحيفة السجادية الدعاء الأول.
(22) الصحيفة السجادية الدعاء32.
(23) يراجع كتاب عرفان آل محمد عليهم السلام: الباب الثاني: عرفان المتصوفة.
(24) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(25) الصحيفة السجادية الدعاء32.
(26) الزمر67.
(27) التوحيد للصدوق ص264.
(28) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(29) الصحيفة السجادية الدعاء الثاني.
(30) الصحيفة السجادية الدعاء التاسع.
(31) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(32) الصحيفة السجادية الدعاء52.
(33) الغيبة للطوسي ص430.
(34) الكافي ج1 ص148.
(35) تحف العقول ص475.
(36) الصحيفة السجادية الدعاء47
(37) الصحيفة السجادية الدعاء39.
(38) إقبال الأعمال ج1 ص196.
(39) البلد الأمين والدرع الحصين ص92.
(40) تحف العقول ص64.
(41) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(42) كتاب العين ج4 ص200.
(43) الفردوس الأعلى ص76.
(44) الفردوس الأعلى ص76.
(45) الفردوس الأعلى ص77.
(46) الإسراء84.
(47) توحيد المفضل ص179.
(48) المجتنى من الدعاء المجتبى ص40.
(49) نهاية الحكمة ص215.
(50) القبسات ص523.
(51) الإمام الصادق عليه السلام في التوحيد للصدوق ص96.
(52) الشورى11.
(53) كفاية الأثر ص261.
(54) التوحيد للصدوق ص73.
(55) الكافي ج1 ص103.
(56) يس82.
(57) الكافي ج1 ص109.
(58) محاضرات في الأصول ج2 ص93.
(59) محاضرات في الأصول ج2 ص41.
(60) كشف المراد ص116.
(61) بحار الأنوار ج8 ص328.
(62) صراط النجاة للتبريزي ج5 ص283.
(63) يونس44.
(64) ق29.
(65) فصلت46.
(66) النساء40.
(67) الصحيفة السجادية الدعاء15.
(68) الصحيفة السجادية الدعاء15.
(69) الصحيفة السجادية الدعاء35.
(70) الصحيفة السجادية الدعاء45.
(71) التوحيد للصدوق ص397.
(72) الصحيفة السجادية الدعاء35.
(73) الكافي ج2 ص10.
(74) الأنعام165.
(75) الصحيفة السجادية الدعاء16.
(76) الصحيفة السجادية الدعاء37.
(77) الصحيفة السجادية الدعاء السابع.
(78) الصحيفة السجادية الدعاء21.
(79) الصحيفة السجادية الدعاء الأول.
(80) الأنعام107.
(81) يونس99.
(82) الكافي ج1 ص155.
(83) الصحيفة السجادية الدعاء الثاني.
(84) الصحيفة السجادية الدعاء42.
(85) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(86) المزار الكبير لابن المشهدي ص57.
(87) الصحيفة السجادية الدعاء الأول.
(88) الكافي ج1 ص441.
(89) الأنوار في مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ص5.
(90) الصحيفة السجادية الدعاء13.
(91) الصحيفة السجادية الدعاء28.
(92) الصحيفة السجادية الدعاء13.
(93) الصحيفة السجادية الدعاء48.
(94) الصحيفة السجادية الدعاء47.
(95) الكافي ج2 ص9.
(96) الصحيفة السجادية الدعاء الثاني.
(97) الصحيفة السجادية الدعاء42.
(98) الكافي ج8 ص390.
(99) الصحيفة السجادية الدعاء الرابع.
(100) الصحيفة السجادية الدعاء52.
(101) الصحيفة السجادية الدعاء20.
(102) الصحيفة السجادية الدعاء40.
(103) الكافي ج3 ص128-129.
(104) من لا يحضره الفقيه ج1 ص135.
(105) الإختصاص ص360.
(106) الصحيفة السجادية الدعاء42.
(107) الصحيفة السجادية الدعاء42.
(108) معاني الأخبار ص288.
(109) الصحيفة السجادية الدعاء32.
(110) الصحيفة السجادية الدعاء الثالث.
(111) الصحيفة السجادية الدعاء التاسع.
(112) الصحيفة السجادية الدعاء16.
(113) الصحيفة السجادية الدعاء47
(114) الصحيفة السجادية الدعاء17.